زيد المصري - Zaid Al-Masri

القلب وتقلبه 1 – القلب أمير الجوارح

إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُهُ ونستعينُهُ ونستهديهِ ونشكُرُهُ ونستغفِرُهُ ونتوبُ إليهِ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنْفُسِنَا ومِنْ سَيّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ولا شبيهَ ولا مثلَ ولا ندَّ لهُ، وَفَّقَ مَنْ شاءَ مِنْ خَلْقِهِ بفضلِهِ وكَرَمِهِ، وعذَّبَ مَنْ شاءَ مِنْ خَلْقِهِ بمشيئتِه وعَدْلِهِ. وأشهدُ أنَّ سَيِّدَنَا وحبيبَنَا وعظيمَنَا وقائدَنَا وقُرّةَ أعيُنِنَا محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ وصَفْوَةُ خَلْقِهِ، مَنْ بَعَثَهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ وهاديًا ومبشرًا ونذيرًا وجَعَلَهُ أكْرَمَ خلْقِهِ. اللهم صلِّ وسلِّمْ على سيّدِنَا محمَّدٍ وعلى ءالِهِ وصَحْبِهِ.

أما بعدُ:

فإنِّي أوصيكُمْ ونفسيَ بتقوى اللهِ العليِّ العظيمِ القائلِ في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)﴾ سورة الحشر.

فقد أَمَرَنَا اللهُ تباركَ وتعالَى فِي هذهِ الآيةِ بالتقوَى ومحاسبةِ أنفسِنَا بأنْ يَنظُرَ كلٌّ مِنَّا مَا قَدَّمَ لِيَومِ القِيامةِ، فمنْ أحسَنَ فلْيَحْمَدِ اللهَ علَى فضلِهِ ولْيَستَقِمْ، ومَنْ أساءَ فَلْيَرْجِعْ ولْيَستَغْفِر ولْيُصْلِحْ قَلْبَهُ.

والتقوَى يا أحبابنا كلمةٌ خفيفةٌ علَى اللسانِ ثقيلةٌ فِي الميزانِ، وتكونُ بِأَداءِ الواجِباتِ واجْتِنابِ المحرَّماتِ، وَلَا يَحْصُلُ ذلِكَ إِلَّا إِذَا تَعَلَّمَ المسلمُ القدْرَ الذِي يَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَتُهُ مِنْ علْمِ الدِّينِ. لأَنَّهُ مِنْ غَيرِ ذلك لا يَعْرِفُ ما هُو حَرام حَتّى يَجْتَنِبَهُ وَما هُوَ الواجِب حَتّى يَفْعَلَهُ.

وهٰذا كُلُّهُ مِنْ دَواءِ القلب، إِذا داوَى الإنسان قَلْبَهُ بِذلِك يَجِدُ أَثَرَ ذلِك، باستقامة قلبُهُ، أَمّا إِذا تَرَكَ قَلْبَهُ وأَهْملَهُ مِنْ غَيرِ أَنْ يُداوِيَهُ، فكيْفَ ستَسْتَقِيمُ جَوارِحُهُ؟! وكما قيل: استقِم بنفسِك يستَقِم بكَ غيرُك، كيف يسْتَقِيمُ الظِّلُّ وَالعُودُ أَعْوَج!.

وَكذٰلِكَ إِذا كانَ القَلْبُ غَيرَ مُسْتَقِيم فكَيْفَ ستَسْتَقِيمُ الجَوارِح، فالذي يَكُون عِنْده اهْتِمام بِأَمْرِ قَلْبِهِ وءاخِرَتِهِ، يسْعَى فِى دَواءِ قَلْبِهِ ويَنْظُر فِى نَفْسِهِ فيقول أَنا أَيْنَ تَقْصِيري؟ وأيْن العِلَل فِى قَلبي؟ فيَسْعَى فِى مُداواتِها حَتَّى تَذْهَبَ عنه العلل وأمراض القلوب فتستقيم الجوارح والأعضاء.

والتقوى محلُّهَا القلبُ، فقدْ أشارَ النبيُّ ﷺ إلَى صدرِهِ وقالَ: “التَّقْوَى هَا هُنَا التَّقْوَى هَا هُنَا” رواهُ أحمدُ. فاتقُوا اللهَ وتزوَّدُوا ليومِ المعادِ: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾ سورة الشعراء.

فعليكَ أخي المؤمنَ بإصلاحِ قَلْبِكَ وداوِهِ، فإنَّ للقلوبِ أمراضًا لا يُداوِيهَا أطبَّاءُ الدُّنيَا، فينبغي علَى كل واحدٍ منَّا أنْ يحرِصَ علَى سلامَةِ قلبِهِ ويَجِدَّ ويَجْتَهِدَ فِي اجتنابِ أمراضِ القلوبِ،

فقدْ قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: “إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَامِكْمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ” رواهُ مسلمٌ. ومعنَى نظرِ اللهِ هنَا: مجازاتُهُ وإثابَتُهُ. أيْ لَا يثيبُكُمْ علَى أجسامِكُمْ وصُوَرِكُمْ وإنَّمَا الإثابةُ والمجازاةُ باعتبارِ مَا فِي القلبِ وباعتبارِ الأعمالِ.

واعلموا أن القلب أميرُ الجوارحِ، إذَا صَلَحَ صَلَحَتْ، وإذَا فَسَدَ فَسَدَتْ، فمَنْ صَلَحَ قَلْبُهُ صَلَحَ جَسَدُهُ كُلُّهُ، ومَنْ فَسَدَ قَلبُهُ فَسَدَ جَسَدُهُ كُلُّهُ، فالقلبُ أميرُ الجوارحِ.

فقدْ قالَ ﷺ فيمَا رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ: “أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ” إذَا صَلَحَتْ هذه المضْغَة بِالإِيمانِ وَالعِلمِ، “صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ” بالطّاعَةِ وَتَحْصِيلِ الأُجُورِ وَالثَّواب.

وصلاحُ الجسدِ بأنْ يَمْتَلِئَ بالحَقِّ والإِيمانِ وَالعِلمِ وَالمعْرِفَةِ، فَإِذا اسْتَنارَ هذا القَلب، تَسْتَنِيرُ سائِرُ جَوارِحِ الإِنْسانِ مِنْ عَيْنٍ وَأُذُنٍ وَلِسانٍ وَيَدٍ وَبَطْنٍ وَفَرْجٍ وَرِجْلٍ.

وَإِذا فَسَدَ هذا القَلبُ بِالكُفْرِ أو الفُجُور وَالجَهْلِ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ بالْمَعاصِي وَالآثامِ والخُروجِ عَمّا يُرْضِي اللهَ سُبحانَهُ وَتعالى، فأمراضُ القلوبِ كثيرةٌ وأشدُّهَا الكفرُ باللهِ، ومِنْ ذلكَ أنْ يعتقدَ الشخصُ خلافَ عقيدةِ المسلمينَ فيعتقدَ الشريكَ والشبيهَ والْمِثْلَ لربِّ العزةِ جلَّ جلالُهُ.

ومَا سُمِّيَ القلب قَلْبًا إِلَّا لِتَقَلُّبِهِ، لأَنَّهُ كَثِيرُ التَّقَلُّبِ مِنْ حالٍ إِلَى حالٍ. وَلِذَا قالَ بَعْضُ الشُّعَراءِ:

 مَا سُمِّيَ القلبُ إِلَّا مِنْ تَقَلُّبِهِ

فاحْذَر عَلَى القَلْبِ مِنْ قَلْبٍ وَتَحوِيلِ

وقال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)﴾ سورة الأنفال.

وقدْ قالَ ﷺ: “إِنَّ قُلُوبَ بَنِي ءَادَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ” ثُمَّ قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ القُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا علَى طَاعَتِكَ” رواه مسلم في صحيحه.

قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ رحمهما الله: أَيْ أَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيْئَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ، وَلَا يَفُوْتُهُ مَا أَرَادَهُ، وليسَ أنَّهُ تعالَى موصوفٌ بالأعضاءِ الجارحةِ والعياذُ باللهِ، فهوَ ليسَ كمثلِهِ شىءٌ لَا يشبِهُ شيئًا ولَا يشبِهُهُ شىءٌ.

 وإِنَّ قُوَّةَ القَلبِ وَضعْفَهُ إِنَّما هُوَ بِسَبَبِ الطّاعَةِ، فَإِذَا أَطاعَ العَبْدُ رَبَّهُ يَقْوَى قَلْبُهُ وَيَزِيدُ يَقِينُهُ وَيَقْوَى تَوَكُّلُهُ عَلَى اللهِ، وَإِذَا انْغَمَسَ الإِنْسانُ فِي الذُّنُوبِ وَالمعاصِي، يَضْعُفُ يَقِينُهُ وَيَضْعُفُ إِيمانُهُ وَيَنْقُصُ.

وَلِذلِكَ نجدُ مِنَ الصحابةِ مَنْ عُرِفَ بقوةِ إيمانِهِ وشِدَّةِ يَقِينِهِ كأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَمِنْ قوةِ إيمانِهِ تصدَّقَ بكلِّ مالِهِ، وَضَعَ بَيْنَ يَدَي رَسُولِ الله ﷺ كُلَّ ما يَمْلِك، وهذا شاهِدٌ وَدَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ يَقِينِهِ الذي وَقَرَ فِى قَلْبِه.

وكانَ ثابتَ القلبِ بعدَ وفاةِ النبيِّ ﷺ وسَبَبُ ذلكَ كلِّهِ لُزُومُ طاعَةِ اللهِ واجْتِنابُ مَعْصِيَتِهِ. وَما ثَباتُهُ يَوْمَ وَفاةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِلّا شاهِدٌ وَدَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ يَقِينِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، إِلَى غَيرِ ذلِكَ مِنَ الحَوادِث التي تَدل على ذلك.

فَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه حِينَ دَعاهُ رَسُولُ الله لِلإِيمان وأمره بالنطق بالشهادتين لَمْ يتَلَكَّأ وَلَمْ يَتَرَدَّد فِى الإِيمانِ وَالنُّطْقِ بالشهادتين، ولم يطلب عَلَى حَقِّيَّةِ هذا الإِيمان مُعْجِزَةً يَراها بِأُمِّ العَيْن لِتَكُونَ شاهِدًا عَلَى حَقِّيَّةِ هذا الإِيمان، بَلْ قُوَّةُ قَلْبِهِ دَعَتْهُ إِلَى تَصْدِيقِ الْرَّسُولِ ﷺ حِين طَلَبَ مِنْهُ الرَّسُولُ ﷺ الإِيمان.

وكان كَثيرٌ غَيْرُهُ طَلَبَ عَلَى حَقِّيَّةِ وَصِدْقِ هذا الإِيمان مُعْجِزاتٍ لِيُؤْمِن. ومن الناس من رَأَى المعجِزاتِ بِأُمِّ عينيه وَلَمْ يُؤْمِنْ لأَنَّ قلبَه مُقفل.

قال تعالى ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)﴾ سورة محمد.

وَأَنْتُم جَمِيعًا سَمِعْتُم عنْ سِيرَةِ هذَا الرَّجُلِ الصّالِح، الذِي مَا طَلَعَت شَمْسٌ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى رَجُلٍ بَعْدَ النَّبِيِّنَ أَفْضَلَ مِنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضاه.

وَلِذلِك أشار ﷺ إِلَى قُوَّةِ إِيمانِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَإِلَى شِدَّةِ يَقِينِهِ فَقالَ: “ما فَضَلَكُم أَبُو بَكْرٍ بكثرةِ صيامٍ وَلا صلاة وَلَكِنْ فَضَلَكُم بِشىءٍ وَقَرَ فِى قَلْبِه”

“ما فَضَلَكُم” يَعْنِى ما فاقَكُم فِى الفَضْلِ.

قال: “ما فَضَلَكُم أَبُو بَكْرٍ بكثرةِ صيام ولا صلاة، وَلَكِنْ فَضَلَكُم بِشىءٍ وَقَرَ فِى قَلْبِه” وما هُوَ هٰذا الشىءُ الذي وَقَرَ فِى قَلْبِ أَبِي بَكْرٍ وَبِسَبَبِهِ فاقَ كُلَّ صَحابَةِ رَسُولِ الله ﷺ فِى الفَضْلِ وَالشَّأْن؟ هو قُوَّةُ اليَقِين.

وَقُوَّةُ اليَقِينِ إِنَّما سَبَبُها لُزُومُ طاعَةِ الله واجْتِنابُ مَعْصِيَةِ الله. بِقُوَّةِ اليَقِينِ فاقَ أَبُو بَكْرٍ سائِرَ الصَحابَة.

وَليُعْلَم أَحْبابَنَا أَنَّ القُلوبَ أَيْضًا مُتَفاوِتَةٌ. بَعْضُها رَقِيقٌ، تَنْفُذُ إِلَيْهِ الموْعِظَةُ بِمُجَرَّدِ أَنْ يَسْمَعَهَا، وَمِنَ النّاسِ من قَدْ يَسْمَعُ المواعِظَ لَيْلًا ونهارًا وَلا يَرِقُّ قَلبُهُ لَها، لأَنَّ هٰذَا القَلْبَ غَلُظَ وَصارَ عَلَيْهِ غِشاوَةٌ حَجَبَتْ هٰذِهِ المواعِظَ مِنَ النُّفُوذِ إِلَى قَلْبِهِ.

وَلِذلكَ أَشارَ رسول الله ﷺ إِلَى رِقَّةِ قُلُوبِ بَعْضِ أَصْحابِهِ حِينَ قَدِمَ إِلَيْهِ وَفْدُ أَهْلِ اليَمَن، وَهُمُ الأَشْعَرِيُّون (قَوْمُ سيِّدِنا أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَالذي مِنْ نَسْلِهِ الإِمامُ أَبُو الحَسَن الأَشْعَرِيّ إِمامُ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَة مِنْ قَوْمِ سيِّدِنا أَبي موسَى الأَشْعَرِيّ الذينَ مَدَحَهُمُ رسُول الله ﷺ)

فَقَال: “جاءَكُم أَهْلُ اليَمَنِ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبا، الإِيمانُ يَمانٍ والحِكْمَةُ يَمانِيَّة” مَعْناهُ قُلُوبُهُم رَقِيقَةٌ، الواحِدُ مِنْهُم يَسْمعُ الموْعِظَةَ فَتَنْهَمِلُ دُمُوعُهُ مِنْ قُوَّةِ تأَثُّرِهِ وَمِنْ صِدْقِ يَقِينِهِ وَإِيمانِهِ.

“الإِيمانُ يَمانٍ” أَيْ أَنَّهُم مُتَمَكِّنُونَ فِى الإِيمان

“والحِكْمَةُ يَمانِيَّة” أَيْ أَنَّهُم مُتَمَكِّنُونَ فِى الحِكْمَة.

وهٰذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ القُلوبَ مِنْها ما فِيها الاسْتِعداد إِلَى قَبُولِ الموْعِظَةِ وَإِلَى الخُشُوعِ وَالخَشْيَةِ والخَوْفِ مِنَ اللهِ، وَمِنَ القُلُوبِ ما لا يَقْبَلُ.

 وَلِذا، فإن صَحابَة رسُولِ الله لا سِيما السّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ المهاجِرِينَ وَالأَنْصارِ الذينَ تَرَبَّوْا بيْنَ يَدَي رَسُولِ الله ﷺ مِنْ أَوائِلِ بِعْثَتِهِ وَجالَسُوهُ وَخالَطُوهُ وَسَمِعُوا مِنْهُ وَتَعَلَّمُوا مِنْهُ وَمِنْ ءادابِهِ ﷺ، فاقُوا غَيْرَهُم مِمَّنْ أَسْلَمَ مُؤَخَّرا،

وَما ذلك إِلّا لأَنَّ قُلُوبَهُم اسْتَنارَت بِما سَمِعَتْهُ مِنْ رَسُولِ الله شيْئًا بَعْدَ شىءٍ بَعْدَ شىء حَتَّى صارَت قُلوبُهُم لَيِّنَةً، ولِذلِكَ فَضَّلَهُمُ اللهُ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ فِيما بَعْدُ،

فَمَدَحَ سبحانه السّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ المهاجِرِينَ الأَنْصار وَالذينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسان وذَكَرَ اللهُ سُبحانَهُ أَنَّهُ رَضِيَ عَنْهُم وَرَضُوا عَنْه

فقال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)﴾ سورة التوبة.

وَلِذلِكَ نَسْمَعُ أَنَّ هؤُلاءِ السّابِقِين الأَوَّلِينَ مِنَ المهاجِرِينَ الأَنْصار لَوْ أَنَّ الواحِدَ مِنْهُم تَصَدَّقَ بِمُدِّ قَمْحٍ أَوْ بِنِصْفِ مُدِّ قَمْحٍ، وَمُدُّ القَمْحِ لا يَكادُ يُطْعِمُ الشَّخْصَ الواحِد،

لَوْ تَصَدَّقَ أَمْثالُ هؤلاء الذينَ قَوِيَ يَقِينُهُم وَقَوِيَ إِيمانُهُم وَكانُوا مِنْ أَصْحابِ القُلُوب المستَنِيرَة وَخالَطُوا الرَّسُولَ وَتَعَلَمُوا مِنْهُ وَمِنْ ءادابِه، لَوْ تَصَدَّقَ الواحِدُ مِنْهُم بِمُدِّ قَمْحٍ، لَكانَ أَجْزَلَ فِى الثَّوابِ وَأَعْظَمَ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ أَشْخاصٌ جاءُوا بَعْدَهُم بِمِثْلِ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا.

وقد سَبَّ شَخْصٌ مِنَ الصَّحابَةِ أَسْلَمَ مُؤَخَّرا واحدًا مِنْ هؤلاءِ السّابِقِين الأَوَّلِينَ مِنَ الذينَ تَقَدَّمَ إِسْلامُهُم فَنَهاهُ الرَّسُولُ ﷺ وَقالَ لَه: “لا تَسُبُّوا أَصْحابِي، فَوالذي نَفْسِي بِيَدِه، لَوْ أَنَّ أَحَدَكُم أَنْفَقَ مِثْلَ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبا، ما بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِم وَلا نَصِيفَهُ”

مَعْناهُ إِذا تَصَدَّقَ واحِدٌ مِن هؤُلاءِ الذينَ أَسْلَمُوا مُؤَخَّرًا بِمِثْلِ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبا، وَمِثلُ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبا يُطْعِمُ ءالافَ النّاس، وَفِى مُدَّةٍ كَبِيرَة طَوِيلَة، وَمَع ذٰلِك لا يَبْلُغُ ثَوابُ تَصَدُّقِهِ بِمِثْلِ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبا ثَوابَ ما لَوْ تَصَدَّقَ واحِدٌ مِنَ السّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ المهاجِرِينَ الأَنْصار بِمُدِّ قَمْحٍ

قال: “وَلا نَصِيفَهُ” يعْنِى وَلا نِصْفَ مُدّ! بِما فاقَ هٰؤلاءِ هٰؤلاء، وذلك بسبب قُوَّةِ قلوبهم وَصِدْقِ يقينِهم وَقُوَّةِ إخلاصِهِم. لذلِك لِيَحْرِصِ الواحِدُ مِنّا عَلَى قَلْبِه، وعَلَى مُراقَبَةِ قَلْبِه فَإِنَّ القلبَ إِذا انْقَلَب انْقَلَبَت سائِرُ أَعْضاءِ الإِنسانِ إِلَى شَرٍّ وَفَساد.

واعلمُوا أنَّ دواءَ القَلبِ يكونُ بأشياءَ كثيرةٍ منهَا مُجالَسَةُ الصّالِحينَ وقِيامُ الليلِ، والصَّوْمُ فِي النَّهارِ، وأَكْلُ الحَلالِ، وحضورُ مَجالِسِ العِلْمِ، والابتعادُ عَنِ الشُّبُهاتِ، وكَثْرَةُ الصّلاةِ، وكَثْرَةُ ذِكْرِ اللهِ مَعَ الاسْتِحْضارِ (أَيِ التَّفَكُّرِ فِي المعْنَى ليسَ فَقَطِ التَّرْدِيدُ باللسانِ).

وكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ المعْصُومُ مِنْ تَقَلُّبِ قَلْبِهِ إِلَى ما فِيهِ الفَسادُ وَالشّرُّ، يَدْعُو بَهَذِهِ الدَّعَواتِ لِيُعَلِّمَ أُمَّتَهُ أَنْ يَدْعُوا بِهَا، كانَ يَقُولُ ﷺ: “يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى طَاعَتِكَ” وَهُوَ المعْصُومُ ﷺ مِنَ انْقِلابِ قَلْبِهِ إِلَى مَا فِيهِ فَسادٌ أَوْ شَرٌّ، ل

أَنَّ اللهَ تعالَى عَصَمَ قَلْبَهُ مِنْ كُلِّ شَرٍّ، مِنْ كُلِّ كُفْرٍ ومِنْ كُلِّ كَبيرَةٍ ومِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ صَغِيرَةٍ فِيهَا خِسّةٌ وَدَناءَةُ نَفْسٍ. فَقدْ كانَ نَبْيُّنَا ﷺ يَدْعُو بِهذَا الدُّعاءِ لِيُعَلِّمَ أُمَّتَهُ أَنْ يَدْعُوا بهِ، فالقَلْبُ كَثِيرُ التَّقَلُّبِ.

سُئِلَ سُفيان الثَّوْرِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ الوُقُوف فِى الصَّفِّ الأَوَّل فِى الجماعَة، ومعلوم أنَّ الوُقُوف فِى الصَّفِّ الأَوَّل فِى الجماعَة فيه ثوابٌ عظيم، ولٰكِن سُفيان رأَى شيئا يَنبَغِى أَنْ يُنَبِّهَهُ عَلَيْه قَبْلَ هٰذا

فنَظَرَ إِلَى السائل وقالَ لَهُ: “انظُر كِسرَتكَ التي تَأْكُلُها مِنْ أَيْنَ هِي ثُمَّ قِف فِى الصَّفِّ الأَخِير” معناه إِنْ كانَ طَعامُكَ من حَلال فلو وقفت في الصَّف الأَخير فإنه لا يَضُرَّكَ. هو أَنْقَص ثَوابًا من الصف الأول لكِن إِنْ فَعَلْتَ الحَرام أو أكل حراما تكون قد عصيتَ الله بوقوعك فيما حرم الله.

وقد قال بَعْضُ العُلَماء: “الطَّعام بَذْرُ العَمَل” فإِذا زَرَعْتَ قَمْحا تحصد قمحا، وَالطّعام الذي تُدْخِلُهُ إِلَى جَوْفِكَ مِثل البَذر لِعَمَلِكَ. فإِذا كانَ حَرامًا فَإنه سَيُؤَثِّرُ فِى قَلْبِكِ وسَيَقع فِى المحرَّمات!!

إِذا كانَ حَلال، فَهٰذا سَيُؤَثِّرُ فِى قَلْبِكِ وَيَجْتَنِب المحرَّمات، فَإِذًا ينْبَغِى أَنْ يُراعِيَ الإِنْسان طَعامَهُ.

ومرة قال سيدنا سُفيان لرجل: “انْظُر إلى دِرهَمكَ من أين يأْتِي بِهِ ثُمَّ قِفْ فِى الصَّفِّ الأَخِير” يَعْنِى لِيَكُن دِرهَمُكَ حَلالًا ثُمَّ بَعدَ ذلِكَ لَوْ وَقَفْتَ فِى الصَّفِّ الأَخِير فلا حرَج عَلَيكَ” وليس معنى ذلك إنكار ثواب الصف الأول.

فمن أراد أن يصل إلى الصلاح فليصلح قلبه “أَلَا وإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ” رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

كان رجلٌ من الصالحينَ يقالُ له إبراهيمُ بنُ أدهم رحمه الله، وكان يمشي في البصرة فاجتمع إليه الناس فقالوا: يا أبا إسحاق، ما لنا ندعو فلا يستجابُ لنا؟ فقال لهم: لأنَّ قلوبَكُم ماتت بِعَشَرَةِ أشياء. فقالوا ما هي؟

قال: عرفتُمُ الله فلم تُؤدوا حَقَّه. (معناه لم تلتزموا بأداء الواجبات واجتناب المحرمات).

ثم قال: وزعمتم أنكم تحبونَ رسولَ الله وتركتم سنته. (أي لم تتبعوا شريعتَهُ اتباعًا كاملًا).

ثم قال: وقرأتم القرءان ولم تعملوا به. (أي خالفتُم وقصَّرتُم بأن تركتم بعضَ الفرائض ووقعتُم في بعضِ المناهي)

ثم قال: وأكلتم نِعمة اللهَ ولم تشكروه عليها. (وشكرُ الله على النِّعَم بأن نستعملَ نعمَ الله في طاعةِ الله وأن لا نستعملَها في معصيته تعالى).

ثم قال: وقلتُم إن الشيطانَ عدوُّكُم ووافقتموه. (معناه وسوسَ لكم فأوقعكم في الحرام).

ثم قال: وقلتُم إنَّ الجنةَ حق فلم تعملوا لها. (أي لم تعملوا لها حقَّ العمل، وذلك لأن قلوبكم تعلقت بالدنيا).

ثم قال: وقلتُم إن النارَ حق ولم تهربوا منها. (والمؤمن الكامل من شأنِه أن يَفِرَّ من الآثام)

ثم قال: وقلتم إنَّ الموتَ حق فلم تستعدوا له. (وذلك بغفلة القلوب التي وقع بها أكثر الناس، كما قال سيدنا عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: “الناسُ نيامٌ فإذا ماتوا انتبهوا”).

ثم قال: واشتغلتم بعيوب الناس، وتركتم عيوبَكُم. (والمؤمن عليه أن يعمل على إصلاحِ نفسِه وإصلاحِ عيوبِه ولا يتجسَّس ولا يَتتبَّع عيوبَ الناس).

ثم قال: ودفنتم الأموات ولم تعتبروا. (وقد قال رسول الله ﷺ فيما رواه الطبراني: “كفى بالموتِ واعظًا” فمن لم يَتَّعِظ بالموت فبمَ يتَّعِظ).

تُرى هل راجعنا أنفسنا في هذه الأشياء العشرة. نسأل الله تعالى أن يحفظَ قلوبنا من الغفلة.

واعلموا أن من أكثر أسباب يقظة القلب وحفظه من الموت أو الغفلة الإكثار من ذكر الموت فإنها وصيةُ رسول الله ﷺ حيث قال: ” أكثروا ذكر هاذم اللذات “  (أي الموت) رواه ابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وما أوصى النبي ﷺ بالإكثار من ذكره إلا لما يورثه ذكر الموت من القناعة في القليل، والحث على الطاعة وترك الطمع والتكبر.

فينبغي على المرء أن يكون فطنًا فيتفكر في أحوال الأمم السابقة والقرون الماضية، أن يتفكر في الذين بنوا المدائن، وجمعوا الخزائن، وشيدوا القصور، وعمّروا الديار، فجاءهم الموت فأرداهم في الحافرة،

فأصبحوا عظاما نخرة، ورفاتا هشيما، وإذ بمنازلهم خاوية، وقصورهم خالية، وأجسادهم بالية، وقد خلفوا كل شىء جمعوه وراءهم، لم يأخذوا معهم مالًا ولا منصبا. فالموت يا أحبابنا أعظم واعظ وأبلغُ زاجر،

كما قال رسول الله ﷺ: “كفى بالموت واعظا” وقد أوصى ﷺ بالإكثار من ذكر الموت لما فيه من دفع المرء لعمل الصالحات، وعدم الركون إلى الدنيا،

وروي أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال: “لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لفسد”.

فبينما يعيش المرء في هذه الدنيا يظن أن أجله بعيد، إذا بالموت يفْجؤه، فينازع السكرات والشدائد، وقد نزل ملك الموت لقبض روحه. وقد قيل: إن الموت أشد من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض.

ولما احتضر النبي ﷺ كان يقول: “لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات، اللهم أعني على سكرات الموت”

 

نسأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُثَبِّتَ قُلوبَنا وَأَنْ يُنِيرَها بِنُورِ الإِيمانِ والعِلْمِ وَالمَعرِفَة، إِنّهُ سبحانَهُ عَلى ما يَشاءُ قَدِير. اللهم يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قلوبنا عَلَى طَاعَتِكَ، واجعلنا من عبادك المحسنين، المتحابين فيك والمتناصحين فيك، والمتباذلين فيك.

اللهم ارزقنا سبل الاستقامة وارزقنا أن لا نزيغ عنها أبدًا، وجنبنا الفتن والآثام والشرور، وانقلنا من ذل المعصية إلى عز الطاعة يا أكرم الأكرمين. اللهم ثَبِّت أفئِدَتنا ونوِّر قلوبنا بِنُورِ الإِيمانِ والعِلْمِ وَالمعرِفَةِ، إِنّك على كل شىء قدير وبعبادك لطيف خبير.

وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحابته الطيبين الطاهرين وسلِّم. وسلام على المرسلين وءاخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مواقيت صلوات اليوم

    عمان, الأردن
    الصلاةالوقت
    الفجر3:01 AM
    شروق الشمس4:42 AM
    الظهر11:33 AM
    العصر3:13 PM
    المغرب6:24 PM
    العشاء7:54 PM

إن المعرفة الحقيقية لدخول أوقات الصلاة تقوم على المراقبة، أما ما نذكره هنا فمن باب الاستئناس

إن أوقات الصلاة الظاهرة هي فقط لمدينة عمان، الأردن

قنوات التواصل الاجتماعي