زيد المصري - Zaid Al-Masri

الحسين رضي الله عنه

الحمد لله الذي طهر من دنس الشرك نفوسًا، ودفع كيد الشيطان عن قلوب أهل الإيمان فأصبح عنها محبوسًا، وصرف عن أهل طاعته بلطفه أذى وبؤسًا، وأذل بقهره من شاء من خلقه أعناقًــا ورؤوسًا، وأعاد ذكر الأصنام بعز التوحيد والإسلام مطموسًا، وجعل عدد السنين بجريان الشمس والقمر للحاسبين محروسًا، وكرم عشر المحرم ونجى في عاشوراء منه نبيه موسى، أحمده تعالى على نعم لا تحصى عددًا، وما أقضي بالحمد حقًا، وأشكره ولم يزل للشكر مستحقًا، وأشهد أنه كوَّن الأشياء كلها وأحكمها خلقًا، وفتق السماء والأرض وكانتا رتقًا، وقسم العباد فأسعد وأشقى {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ ءايَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} سورة غافر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أشرف الخلائق خَلْقًا وخُلُقًا، صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبه أبي بكر الذي حاز الفضائل سبقًا، ويكفيه قول الله فيه {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} سورة الليل، وعلى عمر العادل فما يحابي خلقًا، وعلى عثمان الذي كان بالصدقة يتوقى، وعلى علي بائع ما يفنى ومشتري ما يبقى.

أما بعد: فقد أكرم الله ءال بيت النبيّ الأعظم صلى الله عليه وسلم بمنزلة عظيمة وقرابة زكيّة فاخرة، وجعل منهم الأئمة الكرام والعلماء الأعلام، فكانوا للناس مصابيح هداية يضيئون وسط ظلام الفتن وطغيان الفساد، ويذودون عن حياض الشريعة الغرّاء باللّسان والسّنان، قائمين بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، لا يخافون في سبيل الله لومة لائم، لُيوثًا في مواطن الحقّ والجهاد، وبحورًا في العلم والدّراية، ورثوا من علوم جدّهم المصطفى صلى الله عليه وسلم ما يسعدهم في الدنيا والآخرة، وساروا على هديه ودربه، فجزاهم الله عن أمّة نبيّه خيرًا عظيمًا. وها نحن إذ نعرض للكلام عن أهل البيت الطّاهرين الكرام، نتناول الكلام في مآثر شخصية كبيرة فذّة من كبار رجالات ءال البيت الصّالحين، الإمام الشّهيد الحسين بن عليّ رضي الله عنه.

فهو ابن بنت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد أفراد العترة النبوية المطهرة التي طهّرها الله تعالى من الرجس، ودعا لهم نبيُّه المصطفى عليه الصلاة والسلام، فرضي الله عنهم وعن المؤمنين الصادقين الصالحين الذين تمتلأ قلوبهم، وتفيض مشاعرهم بأصدق الحبّ والوفاء، والتّوقير والإجلال لشخص الحسين العظيم، إذ يرون فيه من أنوار النّبوة والسّجايا الكريمة والخلال الفاضلة ما يذكّرهم دائمًا بجدّه صلى الله عليه وسلم، فقد كان رضي الله عنه كأنّه نور على نور، يجلّه كلُّ مَنْ يلقاه، ويحبّه كلّ من يراه، لِما كان عليه من شبه عظيم بجدّه عليه الصلاة والسلام في خَلْقِهِ وخُلُقِهِ، ولما كان يشيع في محياه من نوره وكماله وعظمته وهيبته.

وفي السنة الرابعة من الهجرة المباركة وهناك على أرض المدينة المنورة، طيبة التي طابت وتنورت بقدوم الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، ولد سبط رسول الله عليه الصلاة والسلام الحسين الشهيد، وجاءت ولادة الحسين بعد أخيه الحسن بسنة وعشرة أشهر على الأَشْهَر.

وُلِدَ ذاك الإمام العظيم أبو عبد الله الحسين بن عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشيّ الهاشميّ من أمّ تقية طاهرة مباركة هي فاطمة الزهراء بنت سيد المرسلين الأعظم صلى الله عليه وسلم، ففرح لولادته القلب وقرّت به العين كما قرّت بأخيه من قبل، وحظي بحب كبير من جدّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع ما ناله من البركة والخير حيث إنّ الرسول عليه الصلاة والسلام عقَّ عنه وعن الحسن كبشًا، ووزنت له أمّه شعرَهُ وشعرَ الحسن وأمّ كلثوم فتصدقت بِزِنَتِهِ فِضّة، واختار له الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الاسم اللامع كما اختار اسم أخيه الحسن من قبل، فقد أخرج الطبرانيّ بسنده عن سالم عن أبي الجعد قال: قال عليّ رضي الله عنه: ” كنت رجلًا أحبّ الحرب، فلما وُلِدَ الحسنُ هممت أن أسمِّيه حربًا، فسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن، فلما وُلِدَ الحسينُ هممت أن أسمِّيه حربًا فسماه الحسين ” وقد ذكر أن اسم الحسن والحسين لم يكونا معروفين في الجاهلية، حتى سمى بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم سبطيه الحسنين كما ذكر ابن الأثير في «أسد الغابة » وغيره.

وكان الإمام الحسين رضي الله عنه سيدًا وسيمًا جميلًا فصيحًا عالمًا، عاقلًا رزينًا محتشمًا، جوادًا كريمًا كثير الخير، ديِّنًا ورعًا، كبير الشأن عظيم القدر، وقد ورث عن جدّه المصطفى عليه الصلاة والسلام فيما ورث من أخلاقه الكريمة وشمائله الطيبة وسجاياه الحميدة ما جعله من أعظم الناس قدرًا وكمالًا.

وكان فيه ملامح من جدّه صلى الله عليه وسلم ومن أبيه رضي الله عنه، ويقال إنه كان في شدّته وبأسه أقرب إلى أبيه، ولذلك قال والده رضوان الله عليه: ” أشبه أهلي بي الحسين ” وكان يشبه بخِلقته بعض صفات جدِّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن عليّ رضي الله عنه أنه قال: ” الحسين أشبه برسول الله من صدره إلى قدميه ” وكان طويل الشعر يضرب أحيانًا إلى منكبيه.

وكان رضي الله عنه قويّ البنية، ربعة القامة، واسع العينين، حَسَنَ الوجه، عريض المنكبين، ضخم العضلات، يتكفّأ في مشيته على نحو يقارب مشية النبيّ صلى الله عليه وسلم، يتلألأ محياه بإشراق من نور جدّه عليه الصلاة والسلام، وكان في صوته غنّة محببة، ونبرات قوية مؤثرة، جعلت منه خطيبًا مفوَّهًا.

وكان رضي الله عنه يسير على هدى جدّه صلى الله عليه وسلم ويتبع سنّته العطرة، كما كان أكبر همّه في الحياة الدعوة إلى الله تعالى، وإعلاء كلمة الحقّ، ونشر الإسلام، وهداية الناس إلى الطريق المستقيم، وكان دائمًا يجلس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقي دروسه ومواعظه، والناس من حوله يتزاحمون في حلقات، حريصين إلى الاستماع لدرره وجواهره، والنّهل من علمه، والتزوّد من فقهه وورعه، بقلوب واعية، وءاذان صاغية، ينصتون في شوق إلى ما يفيضه الله تعالى من تجلّيات وأنوار وكأنَّ على رؤوسهم الطير، وشهد له الناس جميعًا بذلك، وكان الصحابة الكرام يضعون سيدنا الحسين موضع التكريم، وكانوا يتسابقون لمجلسه لينهلوا من علمه وورعه وتقواه، كما تسابقوا لخدمته وإظهار التوقير والاحترام له، حتى إنّ سيدنا عمر رضي الله عنه كان يكرمه ويوقّره.

وكان سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه يجلّ الحسنين ويحترمهما ويحبُّهما حبًّا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حدَّث مرّة فقال: بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء، فكان إذا سَجَدَ وثَبَ الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما على ظهره، فإذا أراد أن يركعَ أخذهما بيدِهِ أخذًا رقيقًا حتى يضعهما على الأرض، فإذا عاد عادا، حتى قضى صلاته وانصرف ووضعهما على فخذيه. رواه الطبرانيّ.

ولا ننسى الإمام عليًّا رضي الله عنه، ومواقفه الشجاعة في مواجهة صناديد الكفر وأئمة الطغيان، وهو الذي شهد معظم الغزوات والمواقع مع الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وكان في مقدمة من شهدوا بدرًا وغيرها، وهو الذي عقدت له الراية في فتح خيبر التي فتحها الله على يديه، فهو أسد الهيجاء، وفارس المجاهدين في سبيل الله.

ولقد تعلَّم منه الإمام الحسين رضي الله عنه فنون الفروسية ومنازلة الأعداء، حتى نشأ على الجرأة واقتحام الأهوال وخوض المعارك، حيث يُروى أنّ الحسن رضي الله عنه قال لأخيه الإمام الحسين عليه رضوان الله: ” أي أخي، والله لوددت أن لي بعض شدة قلبك ” فقال له الحسين: ” وأنا والله وددت أن لي بعض ما بسط لك من لسانك “

وأقام الحسين رضي الله عنه مع جدّه المصطفى صلى الله عليه وسلم سبع سنين، ومع أبيه أمير المؤمنين عليه السلام سبعًا وثلاثين سنة، ومع أخيه الحسن رضي الله عنه سبعًا وأربعين سنة، وكانت مدة حياته بعد أخيه إحدى عشرة سنة، فيكون قد عاش نحو ثمانية وخمسين عامًا.

ومن نظر في كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين أحبهما وعرف فضلهما رضي الله عنهما، فعن أبي سعيدٍ الخدْري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” الحسنُ والحسينُ سيَّدا شبابِ أهلِ الجنة ” قال الترمذي: هذا حديث صحيح. والحَسَنُ والحسينُ كانا وَلِيَّيْنِ قبلَ البلوغ وهذا نادر.

وعن أبي ذر عن عبدِ الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” هذانِ ابناي، فمنْ أحبَّهما فقدْ أحبَّني ” يعني الحسنَ والحسينَ رضي الله عنهما.

وروى البخاري أن رجلًا جاء لابن عمر رضي الله عنهما فسأله عن دم البعوض فقال له: ممنْ أنت؟ قال: من أهل العراق. قال: انظروا إلى هذا يسألُ عن دم البعوض وقد قتلوا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” هما رَيْحانتايَ من الدنيا “

وثَبَتَ عند التِّرْمِذِيِّ أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم قال: ” حسينٌ منِّي وأنا من حسين، أحبَّ الله مَنْ أحبَّ حسينًا ” ومعناه أَنَّ مَحَبَّةَ رسولِ الله للحسينِ كاملةٌ ومَحَبَّةَ الحسينِ لجَدِّهِ رسولِ الله كاملةٌ أَيضًا

وعن أنس رضي الله عنه قال: استأذنَ ملك القطر (أي المطر) على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ” يا أمّ سلمة، احفظي علينا الباب ” فجاء الحسين فاقتحم وجعل يتوثب على النبيّ صلى الله عليه وسلم ورسول الله يقبّله فقال الملكُ: أَتُحِبُّهُ ؟ قال: ” نعم ” قال: إنّ أمتك ستقتله، وإن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه، قال: ” نعم ” فجاء بسهلة أو تراب أحمر. قال ثابت: كنا نقول إنها كربلاء.

ولما نزل الحسين بكربلاء شمَّ الأرض، وسألهم عن اسمها فقالوا: كربلاءُ فقال: كربٌ وبلاءٌ فقُتل بها.

وعن ابن عباس قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام نصف النهار أشعثَ أغبرَ معه قارورةٌ فيها دمٌ يلتقطه، أو يتتبعُ فيها شيئًا، قلت: يا رسول الله ما هذا؟ قال: دمُ الحسين وأصحابه لم أزل أتتبعُهُ منذ اليوم. قال عمار: فحفِظَنا ذلك اليوم فوجدناه قُتل ذلك اليوم.

في عاشوراء سنة واحد وستين من الهجرة استُشهِدَ قمرُ بيت النبوةِ المحمدية سيدُنا الإمام أبو عبد الله الحسين بنُ علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وذلك بعد خروجه بطلب من أهل الكوفة الذين استنجَدوا به بعد موتِ معاوية وقبل مبايعة يزيد عليه لعنات الله. وليعلم أن الحسن بن علي هو من وَلِيَ الأمر بعد سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وانعقدت البيعة عليه ستة أشهر، ولكن معاوية خرج مع بعض من كان من أهل الشام وتمردوا عليه، والحسن كان يستطيع دكَّهُ، لكنه رضي الله عنه أراد حقنَ دماءَ المسلمين فتنازل عن الخلافة حقنًا لدماء المسلمين وليس جُبنًا، فوَلِيَ معاوية وبويِعَ، وكان قد أوصى معاوية قبل موته بالخلافة لولده يزيد، والخلافة لا تكون هكذا، لا تكون بالوصية، فأهلُ الحلِّ والعقدِ لم يبايعوا، والحسين لم يبايع فلا يعد ناكِثًا للبيعة، ولا إثم في خروجه.

وبعد تنازل الإمام الحسن بن علي رضي الله عنه عن الخلافة حقنًا لدماء المسلمين، ترك الكوفة وتوجّه مع الإمام الحسين رضي الله عنهما إلى المدينة المنورة ومعهم ءال البيت، وأقام بها سيدنا الحسين أستاذًا ومرشدًا للناس، وأراد معاوية بعد استلامه للخلافة أن يحولها إلى مُلك عضود يتوارثه أبناؤه بعده، بمعنى أنه أراد أن يجعلها دولة أُموية متعاقبة في ذريته دون مراعاة النظر هل هم أهل أم لا، فأخذ يتودد إلى الناس ثم صار يمهد لبيعة ابنه يزيد، إلى أن أرسل إلى مروان بن الحكم واليه بالمدينة في ذلك الوقت يقول له: (أما بعد: فإني قد كبر سني ورق عظمي وخشيت الاختلاف على الأمة بعدي وكرهت أن أقطع أمرًا دون مشورة عندك، فاعرض ذلك عليهم وأعلمني بالذي يردون عليك) فقام مروان خطيبًا فيهم وأخبرهم بما يراه معاوية وقال: (إن أمير المؤمنين قد اختار لكم وقد استخلف ابنه يزيد بعده) فقام عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه معترضًا فقال: (كذبت والله يا مروان وكذب معاوية، ما الخيار أردتما لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية كلما مات هرقل قام هرقل) وذلك لأن البيعة لأولاد الملوك سنَّة ملوك الروم، وهرقل: اسم ملك الروم، فقال مروان: (هذا الذي أنزل الله فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا} سورة الأحقاف، فسمعت السيدة عائشة رضي الله عنها مقالته فقامت من وراء الحجاب وقالت: ” يا مروان، يا مروان ” فأنصت الناس وأقبل مروان بوجهه، فقالت: ” أنت القائل لعبد الرحمن إنه نزل فيه القرءان ؟ كذبت، والله ما هو به ولكنه فلان بن فلان “.

وكان هذا التفكير في ولاية يزيد سنة ست وخمسين للهجرة، أي قبل أن يموت معاوية بنحو أربع سنين، حيث حرص على أن لا تنتقل الخلافة من بني أمية، على الرغم من اقتناعه بسوء سلوكه وحداثة سنة وكثرة موبقاته وعدم أهليته، وفي سبيل ذلك حاول أن يصلح من اعْوِجاجه ويقوِّم من سلوكه حتى يرضى الناس عنه إلا أنه بقي على حاله ولم يغير من أخلاقه، وبعد ذلك عقد له البيعة من بعده فوافقه الناس ومنهم من كان ذا هوًى أو مطمع أو من كان يخشى سلطان معاوية، أما سيدنا الحسين وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس فإنهم لم يبايعوا ولم يستريحوا لهذه البيعة ولكنهم لم يعلنوا رفضها.

ولم يكد يزيد يتولى الملك حتى وقف من كبار الصحابة الذين رفضوا دعوة معاوية لمبايعته موقفًا معاديًا يَتَّسِم بالتهور والجفاء، على الرغم من أن هؤلاء من كبار الصحابة ولهم فضلهم وقدرهم، وهم أعلى شأنًا منه وأعظم مكانة في الإسلام، إذ إنهم فازوا بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاهدوا المشركين تحت لوائه، وكان منهم من هو في سن أبيه، وهو لم يكن قد تجاوز الرابعة والثلاثين من عمره، وكان في حياته الخاصة مستهترًا، وكان في طبعه جبارًا، لا يرعى حرمة ولا يهاب قدسية ولا يخشى لومًا أو عتابًا.

وفي رجب من سنة ستين للهجرة بُويِّع يزيد بن معاوية بالخلافة بعد موت أبيه على ما سبق من الخلاف فيه، فلما تولى كان على المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وعلى مكة عمرو بن العاص وعلى البصرة عبيد الله بن زياد وعلى الكوفة النعمان بن بشير، فكتب يزيد إلى الوليد يخبره بموت معاوية فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم، من يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة، أما بعد: فإن معاوية كان عبدًا من عباد الله، أكرمه الله واستخلفه وخوَّله ومكَّنَ له، فعاش بقدر ومات بأجل، فرحمه الله، فقد عاش محمودًا ومات برًّا تقيًا والسلام)

وكتب إليه في صحيفة صغيرة كأنها أذن الفأرة فيها: (أما بعد، فَخُذ حُسينًا وعبدَ الله بنَ عمر وعبدَ الله بنَ الزبير بالبيعة أخذًا شديدًا ليست في رخصة حتى يبايعوا والسلام)!!!

فلما أتاه (أي الوليد) كتاب يزيد بعث إلى مروان بن الحكم فدعاه وكان مروان عاملًا على المدينة مِن قِبَلِ الوليد، فلما قدمها الوليد كان مروان يختلفُ إليه متكارها، فلما رأى الوليد ذلك منه شتمه عند جلسائه فبلغ ذلك مروان فانقطع عنه حتى جاء نعي معاوية، فاستدعى مروان، فلما قرأ الكتاب بموت معاوية استرجع وترحَّم عليه، واستشاره الوليد كيف يصنع؟ فقال مروان: (أرى أن تدعوهم الساعة وتأمرهم بالبيعة، فإن قبلوا قبلت منهم وكففت عنهم، وإن أبوا ضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية)!!!!

فأرسلَ الوليد غلامًا حدَثًا إلى الحسين وابن الزبير يدعوهما، فوجدهما في المسجد فقال: أجيبا الأمير!! فقالا: انصرف، الآن نأتيه.. فقال ابن الزبير للحسين: ما تراه بعث إلينا في هذه الساعة؟! فقال الحسين: ” أظن أن طاغيتهم قد هلك ” فلما أتاه الحسين دعاه إلى البيعة، فقال الحسين: ” إنَّ مِثْلي لا يُبايع سرًا، فإذا خرجت للناس ودعوتهم للبيعة ودعوتنا معهم كان الأمر واحدا ” فقال له الوليد: (انصرف) فقال له مروان: (لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها… ثم قال: احبسه فإن بايع وإلا ضربت عنقه) !!! فوثب عند ذلك الحسين وقال:” أأنت تقتلني أم هو كذبت والله ولُؤِمْت ” ثم خرج الحسين رضي الله عنه.

ومروان بن الحكم هو الذي أتى أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه عندما كان عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع وجهه على تراب القبر شوقًا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال له: (أَتَدْرِي مَا تَصْنَعُ) فَقَالَ:” نَعَمْ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ ءاتِ الْحَجَرَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:” لَا تَبْكُوا عَلَى الدِّينِ إِذَا وَلِيَهُ أَهْلُهُ وَلَكِنْ ابْكُوا عَلَيْهِ إِذَا وَلِيَهُ غَيْرُ أَهْلِهِ”

أما ابن الزبير فأرسل الوليد في طلبه لأجل المبايعة ليزيد فقال:” الآن ءاتيكم، ثم أتى داره فأَلح عليه الوليد بكثرة الرسل، فقال لهم:” أمهلوني” فبعث إليه الوليد مواليه فشتموه وقالوا له: (لتأتين الأمير أو ليقتلنك) فأرسل أخاه جعفر بن الزبير حتى يمهلوه إلى الغد فانصرفوا..وخرج ابن الزبير من ليلته فأخذ طريقًا فرعيًا هو وأخوه جعفر ليس معهما ثالث وتجنبا الطريق الأعظم وسارا نحو مكة، فلما أصبح بعث إليه الوليد فوجده قد خرج، فأرسل رجالًا في طلبه، بعث رجلًا من بني أمية ومعه ثمانين رجلًا من موالي بني أمية فلم يدركوه وتشاغلوا به عن الحسين حتى المساء، وفي المساء أتوا إلى الحسين فقال لهم:” أصبحوا ثم ترون ونرى ” فتركوه

ولما عاد الحسين إلى بيته أخذ يستعرض الموقف ويفكر فيه ويقلِّب وجوهه، فهو قد رفض من قبل في أيام معاوية أن يبايع يزيد لأنه لم يكن أهلًا للخلافة، بما عرف عنه من شُرب الخمر، وما زال على حاله لم يتغيَّر بعد وفاة أبيه، بل إنه أخذ يهدد معارضيه ويتوعدهم وينذرهم بضرب الأعناق وسفك الدماء إن لم يخضعوا ويبايعوه، وذلك مما يزيد المخاوف منه ويؤكد خطر مبايعته، كيف يزكِّي يزيدَ أمام المسلمين ويشهد بأنه الرجل الذي يصلح للخلافة وصاحب الحق فيها والقدرة عليها؟!! فكيف يبايعه وهو أي الحسين رضي الله عنه كان راسخ العقيدة قويّ الإيمان، وهو الإمام الورع التقي الولي الذي يراعي أحكام الدين في كل صغيرة وكبيرة، هذا فضلًا عن أن مُلك يزيد لم يقم على أي شىء يرضاه الحسين لدينه أو لشرفه أو للأمة الإسلامية، وفضلًا عن أن يزيد وأعوانه كانوا يسبون الإمام عليًا على المنابر وينعتونه بالكذب والمروق ويتتبعون أنصاره فيُنكّلون بهم، فاتجه عزمه رضي الله عنه إلى الخروج من المدينة المنورة بأهله ومن معه، فخرج رضي الله عنه فسار من ليلته، وهي ليلة الأحد سنة ستين للهجرة النبوية الشريفة، وكان مخرج ابن الزبير قبله بليلة، فخرج الحسين رضي الله عنه ببنيه وإخوته وبني أخيه وجلّ أهل بيته إلى مكة.

ثم إن الوليد أرسل إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما قدم هو وابن عباس من مكة إلى المدينة، فقال ابن عمر للوليد:” إذا بايع الناس بايعت” فلما بايع الناس بايع ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما.

ولما خرج الحسين من المدينة إلى مكة لقيه عبد الله بن مطيع فقال للحسين:” إياك أن تقرب الكوفة فإنها بلدة مشؤومة، بها قتل أبوك وخذل أخوك” ولما قصد سيدنا الحسين مكة ظن أنه سيجد فيها الأمن والأمان والاستقرار، إلا أنه وجد عكس ذلك، فإن يزيد بن معاوية عزل الوليد بن عتبة والي المدينة لتهاونه في شأن الحسين وابن الزبير، واستعمل عليها عمرو بن العاص فقدم المدينة وكان عظيم الكبر واستعمل على شرطته عمرو بن الزبير لما كان بينه وبين أخيه عبد الله بن الزبير من البغضاء، واستشار عمرو بن العاص عمرو بن الزبير فيمن يرسله إلى أخيه، وكان يزيد قد كتب إلى عمرو بن العاص ليرسل عمرو بن الزبير إلى أخيه عبد الله، فقال عمرو بن الزبير: (لا توجه إليه رجلًا أنكأ له مني) وأرسله ومعه جيش نحو ألفي رجل!! فقال مروان بن الحكم لعمرو بن العاص: (لا تغزُ مكة واتق الله ولا تحل حرمة البيت، وخلوا ابن الزبير فقد كبر وله ستون سنة !! فقال عمرو بن الزبير: (والله لنغزونه في جوف الكعبة على رغم أنف من رغم) !!

وأتى أبو شُرَيح الخُزاعي رضي الله عنه إلى عمرو فقال له: لا تغزُ مكة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” يا أيها الناس إن الله عز وجل حرَّم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام من حرام الله إلى يوم القيامة، لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا ” فقال له عمرو: (انصرف أيها الشيخ فنحن أعرف بحرمتها منك)!!! فقال له: ” قد كنتُ شاهدًا وكنتَ غائبًا وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبلِّغ غائبَنا وقد بلغتك ” فساروا نحو مكة ولم يلتفتوا لكلامه..

وانعقدت نية الإمام الحسين على الخروج إلى الكوفة، ولم يكن خروجه طمعًا في جاه أو طلبًا لسلطان، فقد ءاثر أولًا أن لا تُسْتباح مكة بسببه كما استبيحت بسبب عبد الله بن الزبير، وأراد أن يستجيب لهؤلاء المسلمين بالعراق الذين استنجدوا به وأجمعوا عليه وألحوا في طلبه ومبايعته، فلم يشأ أن يخيب ءامالهم ويضيعهم ويسلمهم لهؤلاء الذين حولوا الخلافة إلى ملك عضود يتوارثه من لا يستحقونه ومن ليسوا أهلًا له، فكتب لهم جوابًا وأرسل سيدنا الحسين مسلم بن عقيل نحو الكوفة وأمره بتقوى الله وكتمان أمره، فإن رأى الناس مجتمعين له عجَّل إليه بذلك، فسار مسلم نحو الكوفة، فلما وصلَ إليهم اجتمع بعض أنصاره عليه، فقرأ عليهم كتاب الحسين وأخذ عليهم العهد والميثاق بالبيعة للحسين وأن ينصروه وأن يحموه، وبايعه ثمانية عشر ألفًا، فأرسل مسلم لسيدنا الحسين كتابًا يخبره فيه أن أهل الكوفة بايعوه، وبعد ذلك عُلم بمكان مسلم بن عقيل وبلغ ذلك أمير الكوفة من قِبل يزيد النعمان بن البشير ووصل الخبر مقدم مسلم إلى يزيد بن معاوية فأمر بقتل يزيد أو نفيه.

ولما وصل الخبر لمسلم بن عقيل أتى دار هانئ بن عروة المراديّ فقال له:” أتيتك لتجيرني وتضيفني ” فآواه، ودعا ابنُ زياد مولى له وقال له: (اطلب مسلم بن عقيل وأصحابه وأعلمهم أنك منهم واعلم أخبارهم) ففعل ذلك حتى أدخلوه على مسلم بن عقيل فأخذ بيعته وصار يختلف إليهم ويعلم أسرارهم وينقلها إلى ابن زياد، ثم جلب ابن زياد هانئ بن عروة وقال له: (والله لتأتيني به أو لأضربن عنقك) وعلم هانئ أن العين أي الجاسوس الذي كان لعبيد الله بن زياد هو الذي أتى له بالأخبار، وبعدها ضرب ابن زياد هانئ بن عروة بقضيب ولم يزل يضرب أنفه وجبينه وخدَّه حتى كسر أنفه، وسيَّل الدماء على ثيابه، ونثر لحم خديه وجبينه على لحيته حتى كُسر القضيب.

وعلم عقيل بالمؤامرة عليه وخذله أهل الكوفة وصاروا يتفرقون عنه وكان قد بايعه ثمانية عشر ألفًا فلما تفرقوا لم يبق معه أحد فمضى في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب، فانتهى إلى باب امرأة عجوز يقال لها طوعة وكان لها ولد يقال له بلال، وكان بلال قد خرج مع الناس وهي تنتظره، فسلم عليها ابن عقيل وطلب الماء فسقته، فجلس، فقالت له: يا عبد الله ألم تشرب؟ قال: بلى، قالت: فاذهب إلى أهلك، فسكت، فقالت له ثلاثًا فلم يبرح، فقالت: سبحان الله! إني لا أُحل لك الجلوس على بابي، فقال لها: ليس لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة، فهل لك إلى أجر ومعروف ولعلِّي أكافئك به بعد اليوم؟ قالت: وما ذاك ؟ قال: أنا مسلم بن عقيل، كذبني هؤلاء القوم وغروني. قالت: ادخل. فأدخلته بيتًا (أي غرفة) في دارها وعرضت عليه العشاء فلم يتعشَّ، وجاء ابنها فرءاها تكثر الدخول في ذلك البيت، فقال لها: إن لك شأنا في ذلك البيت! وسألها فلم تخبره، فألحَّ عليها فأخبرته واستكتمته وأخذت عليه الأيمان بذلك، فسكت.

وأما ابن زياد فلما لم يسمع الأصوات قال لأصحابه انظروا هل ترون منهم أحدًا ؟ فنظروا فلم يَرَوا أحدًا، فنزل إلى المسجد قبيل العتمة وأجلس أصحابه حول المنبر وأمر فنودي: (ألا برئت الذمة من رجل من المقاتلة صلى العتمة إلا في المسجد) !! فامتلأ المسجد، فصلى بالناس ثم قام فحمد الله ثم قال: (أما بعد، فإن ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما رأيتم من الخلاف والشقاق فبرئت الذمة من رجل وجدناه في داره، ومن أتانا به فله ديته) !!!

 وأمرهم بالطاعة ولزومها، وأمر الحصين بن تميم أن يفتش الدور، ولما أصبح بلال ابن تلك العجوز التي ءاوت مسلم بن عقيل أتى وأخبره بمكان ابن عقيل، فأمر ابن زياد أن يأتوا به فورًا حتى أتوا الدار التي فيها ابن عقيل، فلما سمع الأصوات عرف أنه قد أُتِيَ، فخرج إليهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار، ثم عادوا إليه فأخرجهم مرارًا، وضرب بكيرُ بنُ حمران الأحمريّ فمَ مسلمٍ فقطع شفته العليا وسقطت ثنيتاه، فلما رأوا ذلك أشرفوا على سطح البيت وجعلوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار في القصب ويلقونها عليه!! فلما رأى ذلك خرج عليهم بسيفه فقاتلهم، وكان قد أثخن بالحجارة وعجز عن القتال، فأسند ظهره إلى حائط تلك الدار، فدمعت عيناه ثم قال: “هذا أول الغدر” وقال رضي الله عنه: ” ما أبكي لنفسي ولكني أبكي لأهلي المنقلبين إليكم، أبكي للحسين وءال الحسين! وكان محمد بن الأشعث قد أعطاه الأمان، فقال مسلم لمحمد بن الأشعث: إني أراك ستعجز عن أماني فهل تستطيع أن تبعث من عندك رجلًا يخبر الحسين بحالي، ويقول له عني ليرجع بأهل بيته، ولا يغرّه أهل الكوفة، إن أهل الكوفة قد كذّبوك وكذّبوني، فقال له ابن الأشعث: والله لأفعلن! ولأعلمن ابنَ زياد أني قد أمنتك، ثم كتب بما قال مسلم إلى الحسين، فلقي الحسينُ الرسولَ بقرية فأخبره، فقال: ” كلما قدر نازلٌ عند الله نحتسب أنفسنا وفساد أمتنا ”  وكان سبب مسيره – أي الحسين – من مكة كتاب مسلم إليه يخبره أنه بايعه ثمانية عشر ألفًا ويستحثه للقدوم.

إذ قد كان مسلم بن عقيل حيث تحول إلى دار هانئ بن عروة وبايعه ثمانية عشر ألفًا قدَّم كتابًا إلى الحسين مع رجل وكتب فيه: ” قد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفًا، فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي، فإن الناس كلهم معك، ليس لهم في ءال معاوية رأي ولا هوى، والسلام “.

واخذ محمد بن الأشعث مسلم بن عقيل إلى القصر، ودخل على عبيد الله فأخبره الخبر وأمانه له، فقال له عبيد الله: ما أنت والأمان! ما أرسلناك لتؤمّنه إنما أرسلناك لتأتينا به! فسكت محمد، ولما جلس مسلم على باب القصر رأى جرةً فيها ماء بارد، فقال: اسقوني من هذا الماء. فقال له مسلم بن عمرو الباهليّ: أتراها ما أبردها! والله لا تذوق منها قطرة حتى تذوق الحميم في نار جهنم! فقال له ابن عقيل: ويحك من أنت؟ قال: أنا ابن مَن عرف الحق إذ أنكرته، ونصح الأمة والإمام إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته، أنا مسلم بن عمرو الباهليّ! فقال له ابن عقيل: لأمك الثكل، ما أجفاك وأفظك، وأقسى قلبك وأغلظك!

وأُدْخِلَ على ابن زياد فلم يسلّم عليه، فقال له الحرسيّ: ألا تسلّم على الأمير؟ فقال: إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه، وإن كان لا يريد قتلي فليكثرنّ تسليمي عليه. فقال له ابن زياد: لعمري لتقتلنّ! فقال: كذلك؟ قال: نعم. قال: فدعني أوصِ إلى بعض قومي، قال: افعل. فقال لعمر بن سعد بن أبي وقاص: إن بيني وبينك قرابة ولي إليك حاجة وهي سرّ، فلم يمكّنه عمر من ذكرها، فقال له ابن زياد: لا تمتنع من حاجة ابن عمك، فقام معه فقال: إن عليَّ بالكوفة دينًا استدنته منذ قدمت الكوفة سبعمائة درهم فاقضها عني وانظر جثتي فوارِها وابعث إلى الحسين من يردّه، فإني قد كتبت إليه أعلمه أن الناس معه ولا أراه إلا مقبلًا.

فقال عمر لابن زياد: إنه قال كذا وكذا. فقال ابن زياد: (أمَّا مالك فهو لك تصنع به ما شئت، وأما الحسين فإن لم يردنا لم نرده، وإن أرادنا لم نكفّ عنه، وأما جثته فإنا إذا قتلناه لا نبالي ما صُنع بها) ثم قال لمسلم: يا ابن عقيل، أتيتَ الناسَ وأمرُهُم جميعٌ وكلمتهم واحدة لتشتّت بينهم وتفرّق كلمتهم! فقال: كلا ولكن أهل هذا المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم، وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب والسنة. فقال: وما أنت وذاك يا فاسق؟ ألم يكن يعمل بذلك فيهم إذ أنت تشرب الخمر بالمدينة؟ قال: أنا أشرب الخمر! والله إن الله يعلم أنك تعلم أنك غير صادق وأني لست كما ذكرت، وإن أحق الناس بشرب الخمر مني من بلغ في دماء المسلمين فيقتل النفس التي حرم الله قتلها على الغضب والعداوة، وهو يلهو ويلعب كأنه لم يصنع شيئًا، فقال له ابن زياد: قتلني الله إن لم أقتلك قتلةً لم يقتلها أحدٌ في الإسلام! وشتمه ابنُ زياد وشتم الحسين وعليًّا وعقيلًا فلم يكلّمه مسلم، ثم أمر به فأصعد فوق القصر لتضرب رقبته ويتبعوا رأسه جسده.

فقال مسلم لابن الأشعث: والله لولا أمانك ما استسلمت، فأصعد مسلم فوق القصر وهو يستغفر ويسبّح، وأشرف به على موضع الجزارين فضربت عنقه، وكان الذي قتله بكيرُ بنُ حمران، ثم أتبع رأسه جسده رحمه الله تعالى. فلما نزل بكير قال له ابن زياد: ما كان يقول وأنتم تصعدون به؟ قال: كان يسبّح ويستغفر، فلما أدنيته لأقتله قال: اللهم احكم بيننا وبين قوم كذبونا وغرونا وخذلونا وقتلونا! قلت له: ادن مني، الحمد لله الذي أمكن منك وأقادني منك! فضربته ضربة لم تغن شيئًا، ثم ضربته الثانية فقتلته.

وبعد قتل مسلم بن عقيل رحمه الله أمر ابن زياد بهانئ فأُخْرِجَ إلى مكان من السوق كان يباع فيه الغنم وهو مكتوف، وقيل له: امدد عنقك! فضربه مولى لعبيد الله بن زياد بالسيف فلم يصنع سيفه شيئًا، فقال هانئ: إلى الله المعاد، اللهم إلى رحمتك ورضوانك. ثم ضربه أخرى فقتله فضربت عنقه.

ثم إن عبيد الله بن زياد لما قتل مسلمًا وهانئًا بعث برأسيهما إلى يزيد بن معاوية، وأمر كاتبه عمرو بن نافع أن يكتب إلى يزيد بن معاوية بما كان من مسلم وهانئ، فكتب إليه كتابًا أطال فيه، وكان أول من أطال في الكتب، فلما نظر فيه عبيد الله بن زياد كرهه، وقال: ما هذا التطويل وهذه الفضول؟! اكتب: (أما بعد، فالحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقه، وكفاه مؤنة عدوه، أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أن مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المراديّ، وأني جعلت عليهما العيون ودسست إليهما الرجال وكدتهما حتى استخرجتهما، وأمكن الله منهما فقدّمتهما فضربت أعناقهما، وقد بعثت إليك برؤوسهما مع هانئ بن أبي حية الهمدانيّ والزبير بن الأروح التميميّ، وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة، فليسألهما أمير المؤمنين عما أحبَّ من أمرٍ، فإن عندهما علمًا وصدقًا وفهمًا وورعًا والسلام).

فكتب إليه يزيد: (أما بعد، فإنك لم تعد أن كنت كما أحب، عملت عمل الحازم، وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش، فقد أغنيتَ وكفيتَ وصدقتَ ظني بك ورأيي فيك، وقد دعوت رسوليك، فسألتهما وناجيتهما فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت، فاستوصِ بهما خيرًا، وإنه قد بلغني أن الحسين بن عليّ قد توجّه نحو العراق، فضع المناظر والمسالح (أي القوم الذين ينظرون إلى الشىء والقوم ذوو سلاح) واحترس على الظن، وخذ على التهمة، غير ألا تقتل إلا من قاتلك، واكتب إليَّ في كل ما يحدث من الخبر، والسلام عليك ورحمة الله).

وسار سيدنا الحسين رضي الله عنه نحو الكوفة بعد أن وصله كتاب مسلم بن عقيل رحمه الله وهو لا يدري ما وقع بها من أحداث بعد ذلك، وكان قد نهاهُ عن الذهاب للعراق أصحاب الرأي كابن عباس وابن عمر وغيرهما فلم يأخذ بقولهم، ولقيه الشاعر الفرزدق فقال للإمام الحسين: ” أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحب ” وواصل الحسين رضي الله عنه سيره متجها إلى الكوفة، وكان يزيد قد أمر عبيد الله بنَ زياد بمقابلة وقتال الحسين، وبعث ابن زياد الحصين بن نمير التميمي صاحب شرطته ليتقصى مقدم الحسين، وكان الحسين قد كتب إلى أهل الكوفة مع قيس الصيداوي يعرفهم قدومه، فلما انتهى قيس إلى القادسية أخذه الحصينُ فبعث به إلى ابن زياد، فقال له ابن زياد: (اصعد القصر فسُبَّ الكذّاب ابن الكذّاب الحسينَ بن عليّ) فصعِد قيسٌ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ” إن هذا الحسين بن علي خير خلق الله (أي في زمانه) ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا رسوله إليكم فأجيبوه ” ثم لعنَ ابنَ زياد واستغفر لعلي.. فأمر به ابن زياد فرُمي من أعلى القصر فمات رحمه الله تعالى.

ولما وصل الحسين مع أصحابه إلى كَربَلاء، على اعتبار أن أهل العراق سوف يبايعونه، لم يجد أحدًا من أهل العراق ممن كان كاتَبَهُ !!! وكان ابن زياد قد أرسل جيشًا لملاقاة الحسين وكان مع الجيش الذي خرج لقتال الحسين (عمر بن سعد بن أبي وقاص) بل إن ابن زياد أمَّرَهُ على الجيش، وكتب ابن زياد إلى عمر بن سعد بن أبي وقاص أن يعرض على الحسين بيعة يزيد، وأمره إن لم يفعل أن يمنعه ومن معه الماء، فحالوا بين الحسين وبين الماء وذلك قبل قتل الحسين بثلاثة أيام، ونادى عبد الله بن أبي الحصين الأزدي: (يا حسين أما تنظر إلى الماء ؟ لا تذوق منه قطرة حتى تموت عطشًا) فقال الحسين: ” اللهم اقتله عطشًا ولا تغفر له أبدًا ” واستجاب الله دعوة الحسين فمكث هذا الرجلُ يسيرًا ثم صَبَّ الله عليه الظَّمأ فَجَعَلَ لا يَروى، فكان يُروَّح عنه ويبرد له الماء فيه السكر واللبن ويقول: (اسقُوني) فيُعطى القُلَّةَ فيشرب ولا يروى، ثم يقول: (اسقوني قتلني الظمأ) فما لَبِثَ إلا يسيرًا حتى انقدت بطنه انقدادَ بطن البعير..

فلما التقى عمرَ بنَ سعد تهيَّأ الحسين، وكان مع الحسين اثنانِ وثلاثون فارسًا وأربعونَ راجلًا، أي اثنان وسبعون، وعمر بن سعد كان معه أربعة ءالاف مقاتل، ودارت الحرب والحسين رضي الله عنه يُدافع عن يمينه وعن شماله، وقبل وفاة الإمام الحسين رضي الله عنه بيوم كان رضي الله عنه جالسًا أمام خيمته إذ خفق برأسه على ركبته وسمعت أخته زينب ضجة فأيقظته فرفع رأسه فقال:” إني رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: إنك تروح إلينا.

وفي ءاخر ساعات من حياة الحسين ظل الحسين يُقاوم الأعداء ويُواجِهُهم جماعةً بعد جماعة في بأس شديد وتجَلُّدٍ كبير بعد أن سقط معظمُ أصحابه وأهلِ بيته، ومكث سيدنا الحسين رضوان الله عليه طويلًا من النهار، كلما انتهى إليه رجل من الناس رجَعَ عنه وكره أن يتولى قتلَهُ، ثم إن رجلًا من كِندَه، يقال له مالكُ بنُ النُّسير أتاه فضربه على رأسه بالسيف فقطعَ البُرنس وأدمى رأسهُ وامتلأَ البُرنُسُ دمًا، فقال له الحسين: ” لا أكلتَ بها ولا شَربت وحشركَ اللهُ  مع الظالمين ” وألقى البرنس ولَبِسَ القَلنسوة، وأخذَ الكِنديُّ اللعين البرنس الذي كان على سيدنا الحسين، فلما قَدِم على أهلِه أخذَ البرنس يغسِلُ الدمَ عنه، فقالت له امرأتُه: أسَلَبَ ابنِ رسول الله تدخلُ بيتي، أخرجهُ عني. فلم يزل ذلك الرجل فقيرًا بشرٍ حتى مات لعنه الله، ثم إن الحسينَ دعا بابنه عبدِ الله وهو صغير فأجلسَهُ في حِجرِه فرماهُ رجلٌ من بني أَسَدٍ فذبحَهُ فأخذَ الحسينُ دمه وصبه على الأرض ثم قال رضي الله عنه: ” ربي إن تكن حبستَ عنا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير وانتقم من هؤلاء الظالمين” قتلوا ولده الصغير عبد الله وهو بحِجره فأخذَ الحسين  دَمَهُ وصبه على الأرض ودعا بهذا الدعاء، ورمى عبدُ الله بنُ عُقبة بعضًا ممن كان أيضًا مع الحسين، وهكذا مع من كانوا حولَ الحسين، وخرج غُلامٌ من ءال الحسين وهو ممسِكٌ بعودٍ من تلك الأبنية وهو مذعور يتلفَّتُ يمينًا وشِمالًا، إذ أَقبَلَ رجلٌ يركض حتى إذا دنا منه مال عن فرسه ثم اقترب من الغلام فقطعه بالسيف والعياذ بالله.

واشتد عطشُ الإمام الحسين فدنا من نهر الفرات ليشرب، فرماه حصين بن نُمير بسهمٍ فوقعَ في فمهِ فجعل يتلقى الدمَ بيده ورمى به إلى السماء ثم حمِدَ الله وأثنى عليه ثم قال: ” اللهم إني أشكو إليكَ ما يُصنَعُ بابن بنت نبيك، اللهم أحصِهِم عددًا واقتُلهم بِدَدًا ولا تبقِ منهم أحدًا “

 ثم إن رجلًا يقال له شَمِرَ بنَ ذي الجوشن أقبل في نفر نحو عشرة من رجالهم نحو منزل الحسين، فقال لهم الحسين: ” ويلكم ! إن لم يكن لكم دين ولا تخافون يومَ المعاد فكونوا أحرارًا ذوي أحساب، امنعوا رحلي وأهلي من طُغاتكم وجُهالكم ” فقالوا: ذلك لك يا ابن فاطمة، وأقدَمَ عليه شَمِر ومعه نحو خمسين رجلًا حتى أحاطوا بالحسين، وأقبلَ إلى الحسين غلامٌ من أهلِه فقام إلى جنبِه فجاء رجل إلى الحسين بالسيف ليقتله، فقال الغلام: أتقتل عمي !! فاتَّقاهُ الغلامُ بيدِه فضربه بالسيف فقطع يده، فاعتنقه الحسين وقال له: ” يا ابن أخي اصبر على ما نزل بك، فإن الله يُلحقُك بآبائك الطاهرين الصالحين، برسول الله صلى الله عليه وسلم وعليٍّ وحمزة، وجعفرَ والحسن ” وقال الحسين: ” اللهم أمسِك عنهم قَطرَ السماء، وامنعهم بركات الأرض، اللهم فإن متَّعتَهم إلى حين، ففَرِّقهُم فِرَقًا، واجعلهُم طرائِقَ قِدَدًا، ولا تُرضِ عنهم الوُلاةَ أبدًا، فإنهم دَعونا ليَنصُرونا فَعَدَوا علينا فقَتَلونا “.

وما بقيَ مع الحسين إلا ثلاثة أو أربعة وهو يقاتل قتال الشجعان وهو يقول: ” أعلى قتلي تجتمعون، أما والله لا تقتلون بعدي عبدًا من عباد الله، والله إني لأجو أن يكرمني الله بهوانكم، ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون، أما والله لو قتلتموني لقد ألقى الله بأسكم بينكم وسَفَكَ دماءَكُم، ثم لا يرضى لكم حتى يضاعف لكم العذابَ الأليم ” فانظروا كيف اجمعوا على ولي من أولياء الله !! على سيد من سادات ءال بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم !! ومكث رضي الله عنه طويلًا من النهار، ولو شاء الناس أن يقتلوه لقتلوه، ولكنهم كان يتَّقي بعضُهم بعضًا، فنادى شَمِر اللعين في الناس: (ويحكم، ماذا تنتظرون بالرجل ؟ اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم !) فحملوا عليه من كل جانب، وقد شجَّعَهُم ما أصابه من شدة الإعياء والضعف، فضَرَبَ زُرعةُ بن شريك التميمي على كف الحسين اليسرى، وضرب أيضًا على عاتقه، وطعنه سنانُ بن أنس النخعيّ بالرمح فوقع، وقال لخوليّ بن يزيد الأصبحيّ: (احتزَّ رأسه) فأراد أن يفعل فضعف وأُرعد، فقال له سنان: (فتَّ الله عضديك وأبان يديك) ونزل إليه فذبحه واحتزَّ رأسه، وأخذ سنان رأس الحسين فدفعه إلى خوليّ بن يزيد، وقد ضُربَ الرأسُ قبل ذلك بالسيوف !!!!

استُشهد الحسين رضي الله عنه، ووجد به رضوان الله عليه ثلاثٌ وثلاثون طعنة وأربعٌ وثلاثون ضربة، وكان عمره يومَ استشهد سِتًا وخمسين سنة وخمسة أشهر، وقيل كان ابن ثمانٍ وخمسين سنة، وكان استشهادُه رضي الله عنه يومَ الجمعة في العاشر من شهر الله المحرم سنةَ إحدى وستين من الهجرة النبوية المباركة.

وبعد قتل الحسين رضي الله عنه، اندفع إليه بقية الأعداء فسلبوا ما كان عليه، فأَخذَ سراويلَهُ بحرُ بن كعب وأخذ نعليه الأسود الأودي، وأخذ سيفَهُ رجل ءاخر، ومال الناس على الفُرُش والحُلل والإبل التي كانت للحسين فانتهبوها، ونهَبوا ثَقَلَهُ ومَتاعَهُ وما على النساء، حتى إن كانت المرأة لتنزع ثوبها من ظهرها فيؤخذ منها.

وقُتل ءال بيت الحسين وأصحابه، وأما سُويد بن المطاع رحمه الله فكان قد صُرِعَ فوقع بين القتلى مثخنا بالجراح فسمعهم يقولون: قُتل الحسين !! فوجد خِفَّة فوثب ومعه سكين، وكان سيفه قد أخذ، فقاتلهم بسكينة ثم قُتل رحمه الله، وكان ءاخر من قُتل من أصحاب الحسين.

وبعد أن قتلوا الحسين وقطعوا رأسه وقتلوا أهل بيته وأصحابته، انتهوا إلى ابن الحسين علي بن الحسين زين العابدين، فأراد شَمِر قتلَهُ !! فقال له حُميد بن مسلم: سبحان الله، أتقتل الصبيان !! وكان زين العابدين (الإمام السجاد) مريضًا، وجاء عمر بن سعد بن أبي وقاص فقال: (ألا لا يَدخُلَنَّ بيتَ هذه النِسوةِ أحد، ولا يتعرض أحد لهذا الغلام المريض، ومن أخذ من متاعهم شيئا فليرده) فلم يرد أحد شيئًا، فقال الناس لسنانِ بنِ أنس النخعي: قتلت الحسينَ بن علي وابنَ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! قتلت أعظم العرب خَطَرًا، فأتِ أمراءَكَ فاطلب ثوابك منهم، فإنهم لو أعطوك بيوت أموالهم في قتله كان قليلًا ! فأقبل على فرسه وكان شاعرًا حتى وقف على باب عمر بن سعد بن أبي وقاص ثم نادى بأعلى صوته:

أَوْقِر ركابي فِضَّةً وذَهَبًا          أنا قتلتُ السيدَ المُحَجَّبا

قتلتُ خيرَ الناسِ أُمًّا وأبًا        وخيرَهُم إذ يُنسبون نسبًا

فغضب عمر بن سعد من إطرائه لنسب الحسين وتمجيده لحسبه، إذا كان هو وابن زياد يكرهان أن يذكر الناس النسبَ الشريفَ لابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتعظيم والتمجيد، وصاح في وجهه: (أشهد إنك لمجنون، أدخلوه عليَّ) فلما دخل قال له: (يا مجنون أتتكلم بهذا الكلام ؟! والله لو سمعك ابن زياد لضرب عنقك).

ثم نادى عمرُ بن سعد في أصحابه: (من ينتَدبُ الحسين فيوطئه فرسه؟) طلب عمر بن سعد منهم أن يدوسوا الحسين بخيولهم فانتدب عشرة، ومنهم إسحاق بن حيوةَ الحضرمي وهو الذي سلب قميص الحسين، فَبَرِصَ بعدُ، فأتَوا لعنهم الله فداسوا الحسين بخيولهم حتى رضُّوا ظهره وصدره، قطعوا رأسه وقطعوا يداه، وسلبوه حتى ثيابَه ثم أخذوا رأسه وبخيولهم داسوه !!!!

وكان عدة من قُتل من أصحاب الحسين اثنين وسبعين رجلًا، وأُرسلَ رأسُ الحسين ورؤوس أصحابه إلى ابن زياد مع خوليّ بن يزيد وحميد بن مسلم، فوجد القصر مغلقًا، فأتى منزله ومعه رأس الحسين، فقال لامرأته: (جئتك بغنى الدهر، هذا رأس الحسين معك في الدار)!!! فقالت: ويلك !! جاء الناس بالذهب والفضة وجئت برأس ابن رسول لله صلى الله عليه وسلم !! والله لا يجمع رأسي ورأسك بيت أبدًا !! وقامت من الفراش فخرجت إلى الدار، قالت: فما زلت أنظر إلى نور يسطع مثل العمود من السماء إلى الإجّانة، ورأيت طيرًا بيضًا تُرفرفُ حولها !!

فلما أصبح غدا بالرأس إلى ابن زياد فصار ينكُتُ بقضيب بين ثنيتي الإمام الحسين (وهما مقدمتا الأسنان) !! فلما رءاه زيد بن الأرقم لا يرفع قضيبه قال: ” أُعلُ هذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فوالذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هاتين الشفتين يقبِّلهما !!” ثم بكى، فقال له ابن زياد: (أبكى الله عينيك ! فوالله لولا أنك شيخ قد خَرِفتَ وذَهَبَ عقلُك لضربت عنقك!) فنهض وخرج وهو يقول: ” أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة وأمَّرتم ابن مرجانة، فهو يقتل خياركم ويستعبد شرارَكم، فرضيتم بالذل، فبُعدًا لمن يرضى بالذل “

  وأقام عمر بن سعد بعد قتل الحسين يومين ثم ارتحل إلى الكوفة، وحمل معه بنات الحسين وأخواته ومن كان معه من الصبيان وعلي بن الحسين مريض، فاجتازوا بهم على الحسين وأصحابه صرعى، فصاحت النساء ولطمن خدودهن، وصاحت زينب أخته فقالت: ” يا محمداه، يا محمداه، صلى عليك ملائكة السماء، هذا الحسين بالعَراء، مرمَّل بالدماء، مقطع الأعضاء، يا محمداه، وبناتك سبايا، وذريتك مقتَّلة، تَسفي عليها الصَّبا ” فأبكت والله كل عدو وصديق.

وأدخلوهم على ابن زياد فلبست زينب أرذل ثيابها وتنكّرت وحفَّت بها إماؤها، فقال عبيد الله: من هذه الجالسة ؟ فلم تكلمه، فقال ذلك ثلاثًا وهي لا تكلمه، فقال بعض إمائها: هذه زينت بنت فاطمة. فقال لها ابن زياد: الحمد لله الذي فضحكم وقتَّلكم وأكذب أحدوثتكم! فقالت زينب: ” الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد وطهرنا تطهيرًا، لا كما تقول أنت، وإنما يُفتضح الفاسق ويُكذَّب الفاجر” فقال: فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك ؟ قالت: كُتِبَ عليهم القَتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاجّون إليه، وتخاصمون عنده “

فغضب ابن زياد واستشاط، فقال له عمرو بن حريث: أصلح الله الأمير، إنما هي امرأة وهل تؤخذ المرأة بشىء من منطقها ؟! إنها لا تؤاخذ بقول ولا تلام على خطل ! فقال لها ابن زياد: قد شفى الله غيظي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك. فبكت وقالت: ” لعمري لقد قَتَلتَ كهلي، وأَبَرْتَ أهلي، وقطعتَ فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يَشفِكَ هذا فقد اشتفيت “

ولما نظر ابن زياد إلى زين العابدين علي بن الحسين قال له: ما اسمك ؟ قال: ” علي بن الحسين ” فقال: أولم يقتل اللهُ علي بن الحسين ؟ فسكت، فقال: ما لك لا تتكلم ؟ فقال: ” كان لي أخ يقال له أيضًا علي فقتله الناس ”  فقال: إن الله قتله، فسكت علي، فقال: ما لك لا تتكلم ؟ فقال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} سورة الزمر، {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} سورة ءال عمران، قال: أنت والله منهم، ثم أمر ابن زياد بقتله !! ولكن الغلام واجه أمره بشجاعة وثبات، فلم يهتزَّ يقينه بالله، ولم يبالِ بما ينتظره من القتل، فرد على ابن زياد قائلًا: ” مَن تُوَكِّل بهذه النسوة ؟ إن كانت بينك وبينهن قرابة فابعث معهن رجلًا تقيًا يصحبهن بصحبة الإسلام.

وهنا فزعت السيدة زينب وتملكها قوة لا يردها سلطان ولا يرهبها سلاح، لأنها قوة من هان لديه الموت وهانت عليه الحياة، ونهضت إلى ابن شقيقها فاحتضنته وتعلَّقت به تعلق من اعتزم ألا يفارقه إلا وهو جثة هامدة، وصرخت في وجه الطاغية الملعون: ” يا ابن زياد، حسبك منا، أما رَويتَ من دمائنا، وهل أبقيت منا أحدًا !” واعتنقته وقالت: “أسألك بالله إن كنت مؤمنًا إن قتلته لما قتلتني معه ! فنظر إليها وقال: عجبًا للرحم، ثم قال: دعوا الغلام ينطلق مع نسائه، وهكذا أنقذ الله تعالى زين العابدين رضي الله عنه من القتل بفضل شجاعة عمته وبسالتها وقوتها.

ثم أمر ابنُ زياد الملعون فنودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فصعد المنبر فخطبهم وقال: (الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه، وقَتَلَ الكذابَ ابنَ الكذابِ الحسينَ بن علي وشِيعتَه) فوثب إليه عبد الله بن عفيف الأزدي والوالبي، وكان ضريرًا قد ذهبت إحدى عينيه يوم الجمل مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه والأخرى بصفين معه أيضًا، وكان لا يفارق المسجد يصلي فيه إلى الليل ثم ينصرف، فلما سمع مقالة ابن زياد قال: ” يا ابن مرجانة ! إن الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك والذي ولاك وأبوه ! يا ابن مرجانه، أتقتلون أبناء النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين ؟ فقتله ابن زياد وأمر بصلبه في المسجد فصُلب رحمه الله.

ثم أمر الملعون ابن زياد بأن يُطاف برأس الحسين في شوارع الكوفة وأزقتها تشفيًا وانتقامًا وإرهابًا للناس وتخويفًا لهم من بطشه وطغيانه، فطيف به في الكوفة على خشبة، ثم أرسل ابنُ زياد رأسَ الحسين ورؤوس أصحابه إلى الشام إلى يزيد بن معاوية، وأرسل معه النساء والصبيان وفيهم عليُّ بن الحسين، قد جعل ابن زياد الغلّ في يديه ورقبتِه، فلم يكلِّمهم علي بن الحسين في الطريق حتى بلغوا الشام، فدخل زَحْر بن قيس على يزيد، فقال: ما وراءك ؟ فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله وبنصره، ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته وستين من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أن ينزلوا على حكم الأمير عبيد الله أو القتال، فاختاروا القتال، فعدونا عليهم مع شروق الشمس فأحطنا بهم من كل ناحية !!

فوضع رأس الحسين بين يدي يزيد بن معاوية فجعل ينكُتُ بقضيب في يده، فقال له أبو برزة الأسلميّ: تنكث قضيبك في ثغر الحسين ؟! والذي لا إله إلا هو لقد رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هاتين الشفتين يقبلهما !! أما إنك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك، ويجيء هذا ومحمد شفيعه!

ولما جلس يزيد بن معاوية دعا أشراف أهل الشام فأجلسهم حوله، ثم دعا بعليّ بن الحسين وصبيان الحسين ونسائه، فأُدْخِلوا عليه والناس ينظرون، وأُدْخِلَ زين العابدين عليٌّ بن الحسين مغلولًا، فقال: لو رءانا رسول الله صلى الله عليه وسلم مغلولين لفكّ عنا! قال: صدقت، وأمر بفك غلِّه عنه، فقال يزيد لعليّ: يا عليّ، أبوك الذي قطع رحمي، وجهل حقي، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت! فقال عليّ: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} سورة الحديد، فقال يزيد لابنه خالد: اردد عليه، فما درى خالد ما يردّ عليه، فقال له يزيد: قل: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (30)} سورة الشورى.

ثم أدخلت نساء الحسين على يزيد والرأس بين يديه، فجعلت فاطمة وسكينة ابنتا الحسين تتطاولان لتنظرا إلى الرأس، وجعل يزيد يتطاول ليستر عنهما الرأس، فلما رأين الرأس صحن، فصاحت نساء يزيد وولولت بنات معاوية، فقالت فاطمة بنت الحسين، وكانت أكبر من سكينة: أبنات رسول الله سبايا يا يزيد؟ فقال: يا ابنة أخي أنا لهذا كنت أكره، فقام رجل من أهل الشام فقال: هب لي هذه! يعني فاطمة، فأخذت بثياب أختها زينب، وكانت أكبر منها، فقالت زينب: كذبت ولؤمت، ما ذلك لك ولا له. فغضب يزيد وقال: كذبتِ والله، إن ذلك لي ولو شئت أن أفعله لفعلته. قالت: كلا والله ما جعل الله لك ذلك إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا. فغضب يزيد واستطار ثم قال: إياي تستقبلين بهذا؟ إنما خرج من الدين أبوك وأخوك! قالت زينب: بدين الله ودين أبي وأخي وجدي اهتديتَ أنت وأبوك وجدك. قال: كذبتِ يا عدوة الله! قالت: أنت أمير مسلّط، تشتم ظالمًا، وتقهر بسلطانك؟ فاستحى وسكت، ثم عاد الشاميُّ فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه الجارية! فقال: اغرُب، وهبَ اللهُ لك حتفًا قاضيًا!

ولما أراد أن يسيرهم إلى المدينة المنورة، أمر يزيد النعمان بن بشير أن يجهّزهم بما يصلحهم ويسير معهم رجلًا أمينًا من أهل الشام ومعه خيل يسير بهم إلى المدينة، وكساهم وأوصى بهم هذا الرسول فخرج بهم، رعاهم رعاية عظيمة وكان يسألهم عن حاجتهم ويلطف بهم حتى دخلوا المدينة. فقالت فاطمة بنت علي لأختها زينب: لقد أحسنَ هذا الرجل إلينا فهل لك أن نصله بشىء؟ فقالت: والله ما معنا ما نصله به إلا حُلِيّنا، فأخرجتا سواريْنِ فبعثتاها إليه واعتذرتا، فردَّ الجميع وقال: لو كان الذي صنعتُ للدنيا لكان في هذا ما يرضيني، ولكن والله مِا فعلتُهُ إلا لله وِلقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وما إن أشرفت القافلة على المدينة حتى خرج أهلها باكين منتحبين لاستقبال ءال البيت، وقد تفطّرت قلوبهم حزنًا وجزعًا من هول ما حدث، إذ إن الفاجعة كانت أكبر من أن يتحمّلها أهل المدينة. ورأت نساء ءال البيت هذه المظاهر الحزينة، فصرخت السيدة زينب والسيدة أم كلثوم وباقي النساء، وارتفع الصوت وأجهش الجميع بالبكاء وهم يرددون: (واحسيناه، واحسيناه، واحبيباه، واحبيباه).

وكان مع الحسين امرأته الرباب بنت امرىء القيس، وهي أم ابنته سكينة، وحُملت إلى الشام فيمن حُملَ من أهله، ثم عادت إلى المدينة المنورة، فخطبها الأشراف من قريش، فقالت: ما كنت لأتخذ حموًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبقيت بعده سنة لم يظلّها سقفُ بيتٍ حتى بليت وماتت كمدًا رحمها الله تعالى.

وروي أن السيدة أم كلثوم وقفت أمام مقام جدّها تبكي وتقول: (السلام عليك يا جدّاه، إني ناعية إليك ابنك الحسين) ثم ساد المدينةَ كلَّها جوٌّ غائم بالأسى والحزن، وارتفعت في كلّ نواحيها صيحات السخط والاستنكار، ويروى أن السيدة أم سلمة رضي الله عنها زوجة النبيّ صلى الله عليه وسلم حين أتاها نبأ استشهاد سيدنا الحسين، بكت وعلا نحيبها، ودعت على القَتَلَة الفجّار قائلة: قد فعلوها! ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا، ثم وقعت مغشيًّا عليها.

قُتِلَ الحسين ابن السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتله سنان بن أنس النَّخَعيّ لعنه الله، وعن الحسن البصري أنه قال: قُتل مع الحسين ستة عشر رجلًا كلهم من أهل بيته، ما على وجه الأرض يومئذ لهم شبه.

ومن العجائب التي حصلت بعد مقتل الحسين:

كان عمر الإمام الحسين يوم قتل ثمانيَ وخمسين سنة، وقيل غير هذا، وكان قتله يوم عاشوراء سنة إحدى وستين من الهجرة. ومكث الناس شهرين أو ثلاثة كأنما تلطخ الحوائط بالدماء ساعة تطلع الشمس حتى ترتفع.

ولما قُتِلَ الحسين رضيَ الله عنه ظَهَرَتِ النجومُ في النهار، ماتَ الحسينُ بَكَتْ عليه السَّماءُ والأَرض . أيْ بَكَتْ عليه الملائكةُ البكاءَ الحقيقيَّ . وكانَ يُرَى ، بعدَ مقتلِ الحسين ، تحتَ الحَجَرِ الذي يُرْفَعُ دَمٌ . الرَّسُولُ كذلكَ بَكَتْ عليه السَّماءُ والأرض . صفيَّة ، عَمَّةُ رسولِ الله ، قالتْ وهي تَرثي رسولَ :” بَكَتِ الأرضُ والسَّماءُ عليه ،،، وبَكَاهُ نديمُه جبريلُ ” .

وقد جَعَلَ الله صَوْمَهُ سُنَّةً ولم يَفْرِضْهُ علينا . وإنما لم يجبْ صومُه لقولِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم :” هذا يومُ عاشوراء ، ولم يَكْتُبِ الله عليكُم صيامَه ، وأنا صائم ، فمَنْ شاءَ فلْيَصُمْ ومَنْ شاء فلْيُفْطِرْ ” .. رواهُ البخاريُّ في[(صحيحه)/كتاب الصَّوم]..

.

وروى الطبريُّ عن عمرو بن عكرمة قال: أصبحنا صبيحة قتل الحسين بالمدينة، فإذا مولى لنا يحدّثنا قال: سمعت البارحة مناديًا ينادي وهو يقول:

أيها القاتلون جهلًا حُسينًا          أبشروا بالعذابِ والتنكيل

 كلُّ أهلِ السماءِ يدعو عليكم      مِنْ نبيٍّ وَمَلاكٍ وَقَبيلِ

 قد لُعِنْتُمْ على لسانِ ابنِ داودَ     وموسى وصاحبِ الإنجيلِ

ونقل عمرُ بن حيزوم الكلبيّ عن أبيه قال: سمعت هذا الصوت.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم الليلةَ التي قُتِلَ فيها الحسين وبيده قارورة وهو يجمع فيها دمًا. فقلت: يا رسول الله ما هذا؟ قال: هذه دماء الحسين وأصحابه أرفعها إلى الله تعالى. فأصبح ابن عباس فأعلم الناس بقتل الحسين وقصّ رؤياه، فَوُجِدَ قد قُتِلَ في ذلك اليوم.

وروي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، أعطى أمَّ سلمة ترابًا من تربةِ الحسين حمله إليه الملك ميكائيل  ملك المطر فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأم سلمة: ” إذا صار هذا التراب دمًا فقد قُتِلَ الحسين ” فحفظت أمُّ سلمة ذلك التراب في قارورة عندها، فلما قُتِلَ الحسين صار التراب دمًا، فأعلمت الناس بقتله أيضًا.

نوح الجنّ على الحسين رضي الله عنه:

روى ابن كثير عن كعب الأحبار ءاثارًا في كربلاء، أنه قد حكى أبو الجناب الكلبيّ وغيره أن أهل كربلاء لا يزالون يسمعون نوح الجن على الحسين وهن يقلن:

مسحَ الرسولُ جبينهُ          فله بريقٌ في الخدودِ

أبواهُ مِن عليا قريشٍ          جدُّهُ خيرُ الجدودِ

وقد أجابهم بعض الناس فقال:

 خرجوا به وفدًا إليه            فهم له شرُّ الوفودِ

قتلوا ابنَ بنتِ نبيِّهِم           سكنوا به ذاتَ الخدودِ

وروي أن الذين قتلوه رجعوا فباتوا وهم يشربون الخمر والرأس معهم، فبرز لهم قلم من حديد فرسم لهم في الحائط بدمٍ هذا البيت:

أترجو أمة قتلت حسينا       شفاعة جده يوم الحسابِ؟

إسلام يهودي على رأس الحسين رضي الله عنه:

حكى عبدُ الملك بن هشام أنّ ابن زياد لما أنفذ رأس الحسين رضي الله عنه إلى يزيد، كانوا إذا وصلوا منزلًا أخرجوا الرأس من صندوق أعدّوه له فوضعوه على رمح وحرسوه إلى وقت الرحيل، فوصلوا منزلًا فيه دير راهب، فأخرجوا الرأس ووضعوه على الرمح مسندًا إلى الدير، فرأى الراهب نورًا من مكان الرأس إلى عنان السماء، فأشرف على القوم، فسألهم عن الرأس، فقالوا رأس الحسين ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: نبيّكم؟ قالوا: نعم. قال: فبئس القوم أنتم، لو كان للمسيح ولد لأسكنّاه أحداقنا، ثم قال: هل لكم في عشرة ءالاف دينار تأخذونها وتعطوني الرأس يكون عندي الليلة؟! فإذا رحلتم خذوه. فأخذ الرأس وغسله وطيّبه وأخذه وتركه على فخذه، وقعد يبكي إلى الصبح، وقال: أيها الرأس أنا لا أملك إلا نفسي، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم خرج من الدير وما فيه وصار يخدم أهل البيت.

ثم إنهم أخذوا الرأس وساروا، فلمّا قربوا من دمشق أخذوا الأكياس ليقتسموها ففتحوها، فإذا الدنانير قد تحوّلت خزفًا، وعلى أحد جانبي الدينار مكتوب: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} سورة إبراهيم، وعلى الجانب الآخر: { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } سورة الشعراء.

وروي عن الحسن البصريّ رحمه الله قال: إن سليمان بن عبد الملك رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم في المنام يلاطفه ويبشِّره، فلمّا أصبح سليمان سأل الحسنَ عن ذلك، فقال له الحسن: لعلّك صنعت إلى أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم معروفًا؟ قال: نعم، وجدت رأس الحسين بن عليّ عليه السلام في خزانة يزيد فكسوته خمسة أثواب وصليت عليه مع جماعة من أصحابي وقبرته، فقال له الحسن: إنَّ رضى النبيّ صلى الله عليه وسلم بسبب ذلك .

تعجيل الانتقام لقَتَلَةِ الحسين وما نزل بهم من البلاء:

قال ابن كثير: (ليعلم أن أكثر ما روي من الأحاديث والفتن التي أصابت مَن قتله صحيح، فإنه قلَّ مَن نجا من أولئك الذين قتلوه من ءافة وعاهة في الدنيا، فلم يخرج منها حتى أُصيب بمرض، وأكثرهم أصابهم الجنون.

دخول الحية في منخري ابن زياد:

ولقد انتقم الله عزَّ وجلَّ من ابن زياد على يد المختار بن أبي عبيد، وكان ابن زياد بالموصل، وذلك سنة تسع وستين، فقُتل ابن زياد على الفرات في يوم عاشوراء، وبعث ابنُ الأشتر برأس ابن زياد إلى المختار، فَنُصِبَ في المكان الذي نَصَبَ فيه رأس الحسين رضي الله عنه، ثم ألقاه وأصحابه في اليوم التالي في الرحبة، فجاءت حية تتخلّل الرؤوس حتى دخلت في منخري عبيد الله بن زياد، فمكثت هنيهة، ثم خرجت فذهبت حتى تغيبت، ثم جاءت ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثًا، وكان في ذلك عبرة لأولي الألباب.

رجل كثَّرَ سواد الناس على الحسين فعمي:

قال ابن الجوزيّ في بستان الواعظين: قال الحذاء بن رباح القاضي: رأيت رجلًا مكفوفًا قد شهد قتل الحسين، وكان الناس يأتونه ويسألونه عن ذهاب بصره؟ فكان يقول: شهدت قتل الحسين، ولكنّي لم أضرب بسيف ولم أرمِ بسهم، فلما قتل الحسين رجعت إلى المنزل وصليت العشاء الأخيرة ونمت، فأتاني ءاتٍ في منامي فقال لي: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما لي وله! فأخذني وجذبني جذبة شديدة وانطلق بي إليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا في المحراب مغتمًّا حاسرًا عن ذراعيه ءاخذًا بخده، وبين يديه مَلَك قائم بين يديه، وبين يدي الملَك سيف من نار، وكان لي تسعة من الأصحاب، فقتل أصحابي التسعة كلما ضرب الملَك أحدًا التهبت نفسه نارًا، فكلما قام الملك صاروا أحياء فقتلهم مرة بعد أخرى حتى قتلهم سبع مرات، فدنوت من النبيّ صلى الله عليه وسلم وحبوت إليه، فقلت: السلام عليك يا رسول الله، والله ما ضربت بسيف ولا طعنت برمح ولا رميت بسهم، فقال لي: ” صدقت ولكن كثّرت السواد، ادن مني ” فدنوت منه فإذا طشت مملوء دمًا من دماء الحسين فكحّلني من ذلك الدم فانتبهت أعمى لا أبصر شيئًا. !!

لم يشارك في القتل ولكن جلب الحديد فنال ما نال:

وأورد ابن الجوزيّ في بستان الواعظيمن أيضًا حكاية عن قَتَلَة الحسين، فقال: قال الفضل بن الزبير: كنت قاعدًا عند السديّ، فجاءه رجل فجلس إليه، فإذا منه ريح قطران! فقال له السديّ: أتبيع قطرانًا؟ فقال: لا، قال له: ما هذه الرائحة؟ قال: شهدت عسكر عمر بن سعد، فكنت أبيع منهم الحديد، فلما قُتِلَ الحسين يوم عاشوراء بتّ في العسكر فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم والحسين وعليٌّ معهم وهو يسقي الماء مَنْ قُتِلَ من أصحاب الحسين، فاستسقيته فأبى أن يسقيِنَي، فقال لي: ” ألست ممن أعان علينا؟” فقلت: بل كنت أبيعهم أوتاد الحديد. فقال لعليّ: اسقه قطرانًا! فناولني قدحًا فشربت منه، فكنت ثلاثة أيام أبول القطران، ثم ذهب ذلك عني وبقيت هذه الرائحة عليَّ.

مشارك في قتل الحسين مات مُحترقًا:

قال ابن الجوزيّ في بستان الواعظين أيضًا: وحكي أن رجلًا ممن شهد قَتْلَ الحسين يوم عاشوراء – أي شارك في قتله – قال على وجه الاستخفاف: ما أكثر ما يكذب أهل العراق ويقولون إنه لم يشهد قتل الحسين أحد إلا أصيب ببلاء! وإني حضرت يوم قتله ولم يصبني بلاء ولا شىء! وكان ضيفًا عند قوم، فقام ليصلح السراج فتعلقت به شرارة من المصباح فاشتعل نارًا ومات على المكان.

براءة أهل السنة والجماعة من مقتل الإمام الحسين الشهيد رضي الله عنه:

قال ابن الجوزيّ رحمه الله في بستان الواعظين: (يوم عاشوراء وقتل الحسين): فالعجب كل العجب من بعض جهلة الناس الذي يذمّون يوم عاشوراء ويسمونه يوم النحس لقتل الحسين رضي الله عنه فيه، وهذه غاية السخافة في الجهالة وفي معاندة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومبالغة في الرد على صاحب الشريعة في قوله بفضائل يوم عاشوراء، ولولا البغي والعداوة لعدّوا ذلك من فضائل الحسين رضي الله عنه، إذ استشهد في مثل هذا اليوم الشريف، كما أن الواحد منا يموت له قريب في ليلة الجمعة أو ليلة القدر أو يستشهد يوم الجمعة أو يوم عرفة فيكون من فضائله أو يعد من مناقبه، فكذا سيدنا الحسين رضي الله عنه. هذا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم أخبره أحد الملائكة بقتله.

وقال ابن كثير في البداية والنهاية: وقد تأول عليه من قتله أنه – أي أنّ الحسين – جاء ليفرّق كلمة المسلمين بعد اجتماعها وليخلع من بايعه من الناس واجتمعوا عليه، وقد ورد في صحيح مسلم الحديث بالزجر عن ذلك، والتحذير منه، والتوعد عليه، وبتقدير أن تكون طائفة من الجهلة قد تأوّلوا عليه وقتلوه ولم يكن لهم قتله، بل كان ينبغي عليهم إجابته إلى ما سأل من تلك الخصال الثلاثة المتقدم ذكرها، فإذا ذُمَّت طائفة من الجبارين تُذَمّ الأمةُ كلها بكمالها وتُتَّهم على نبيها صلى الله عليه وسلم ؟ فليس الأمر كما ذهبوا إليه، ولا كما سلكوه، بل أكثر الأمة قديمًا وحديثًا كاره ما وقع من قتله وقتل أصحابه، سوى شرذمة قليلة من أهل الكوفة قبحهم الله، وأكثرهم كانوا قد كاتبوه ليتوصلوا به إلى أغراضهم ومقاصدهم الفاسدة.

إن منزلة الأئمة الأطهار عليّ والحسن والحسين رضوان الله عليهم منزلة عالية جدًّا عند أهل السنة والجماعة، فعليّ من الخلفاء الراشدين، والحسنان الكريمان هما سيدا شباب أهل الجنة. فحبنا لعليّ وأبنائه وأهل بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وكافة الصحابة الكرام هو نابع من قلوبنا، يفرحنا ما يفرحهم، ويحزننا ما يحزنهم، ولكننا لا نرفع منزلتهم لغاية الكفر، ولا نبخس حق أحد منهم. ومن إتمام الكلام عن مكانة ءال بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا معشر أهل السنة والجماعة نشير إلى بيان موقف أهل الحقّ من النواصب، أي الذين عادوا سيدنا عليًّا رضي الله عنه، لأنهم ناصبوا له العداء. وهذا أصل التسمية فكل من أبغض ءال البيت فهو من النواصب. وقد عَصَمَ الله أهل السُّنَّة، فكانوا على الوسط الذي ارتضاه الله تبارك وتعالى لهم، فأحَبُّوا ءال البيت، ووالوا ءال البيت، ولم يُنزلوهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله تبارك وتعالى فيها، فعصمهم الله رب العالمين باتِّباع النبي صلى الله عليه وسلم من الإفراط والتفريط، والغلو والجفاء معًا. وكلام علماء الإسلام صريح وواضح في الثناء على الإمام عليّ وبنيه، وعقيدتنا أننا نشهد بأنهم في جنات النعيم، وهذا ظاهر ولله الحمد.

ونشير هنا إلى موقف أهل السنة وبراءتهم من النواصب الكارهين لعليّ، ومن قتل الإمام الحسين الشهيد وهذه مسألة مهمة جدًّا، لأنها من أسباب الفرقة والاختلاف في الأمة، وتوجد طائفة من المستفيدين والمنتفعين بهذه الفرقة تتحدث بما يشعل الفرقة ويزيدها في كل مناسبة، بل وبدون مناسبة، بكل كلام يشعل نارها وهذا الكلام من البهتان والزور والكذب المحض.

فنجد منهم مَن يتهم أهل السنة بكراهية ءال البيت، ويطلق للسانه العنان في اختلاق الكذب، وإذا لم يفترِ شيئًا جديدًا من الافتراءات تراه يكرر ويردد الروايات والقصص الخيالية عن بغض أهل السنة للإمام عليّ. وأهل السنة يروون الأحاديث الكثيرة في فضائله، فلا تجد كتابًا في الحديث إلا وفيه ذكر فضائل الإمام عليّ ومناقبه الكريمة.

ولنعد إلى الفاجعة الدموية التي تعدّ من أكبر الفجائع التي أُصيب بها قلب الأمة المحمدية وكيانها، وجرت على أيدي أناس من جلدتها ويدينون بدين نبيّها، ولكن، لم يتقوا الله تعالى في حفيد هذا النبيّ الكريم، فمالت بهم أهواؤهم إلى الهاوية المقيتة، فخسروا عزّ الدنيا وفاتهم عزّ الآخرة. إذ إن مقتل الإمام الحسين رضي الله عنه من الحوادث العظيمة، وذكراه موجعة، وإن كان حديثه يحزن كلّ مسلم، ويسخط كلّ عاقل، لأنه لما ظهر من فسق يزيد بن معاوية، واستهتاره بالفواحش، وظلمه وتهاونه بالدين، رأى الحسين رضي الله عنه أن يخرج للإصلاح في أمة جده المصطفى عليه الصّلاة والسّلام.

وقد أدى استشهاده رضي الله عنه في العاشر من محرم سنة إحدى وستين هـ إلى فتن عظيمة في تاريخ الأمة وحاضرها، إذ تحول الخلاف السياسيّ بين أبنائها، إلى انقسام عقائديّ وطائفيّ، أدخلها في صراعات عبر التاريخ أدت إلى قتل ملايين المسلمين.

وسبب هذا التحول هو إصرار فئة من الناس على تحميل أهل السنة جميعًا مسئولية قتل الحسين الشهيد، والجهر بسب الصحابة الكرام الذين هم نَقَلَة الدين وحراسه ومَنْ نشروه في مشارق الأرض ومغاربها، والتذكير المستمر بهذه الحادثة الأليمة، وإحيائها في كل سنة بطقوس تثير النفوس والأحقاد بين أبناء الأمة الواحدة. ولو كان حب الإسلام هو الذي يدفعهم إلى إحياء ذكرى استشهاده باللطم والبكاء والسب واللعن، لفعلوا ذلك في ذكرى استشهاد أبيه سيدنا عليّ، وزوج أخته سيدنا عمر، وزوج خالته سيدنا عثمان رضي الله عنهم جميعًا، وهم أفضل من الحسين الإمام، لكنها الفتنة التي لا تخدم إلا أعداء المسلمين، ولا تحقق إلا أهدافهم في فرقة الأمة.

إنها فاجعة كبيرة، ولكن الأكبر منها أن يحاول البعض تفتيت الأمة المحمدية، ولن تتفتت بوجود أصحاب العقول النيرة، والنفوس الكبيرة، الذين يَزينون بحكم الشرع كلّ خاطر، فلا يؤججون النفوس لمآرب خاصة، بل يسعون لجمع الكلمة على الحق وأهله.

روى الإمام أحمد رحمه الله تعالى: عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ قَالَ: ” الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فإن كان دينه صلبًا اشتدّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتُليَ على حسب دينه، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ “

فهذا سيدنا إبراهيم عليه السلام، ماذا حصل له من قومه وفي بلده العراق؟ ألقَوْهُ في النار ولكنَّ الله سلَّمهُ وحفظهُ. وماذا حصل لسيدنا نوح صلى الله عليه وسلم؟ كان يُضرب حتى يُغْمَى عليه. وماذا حصل لسيدنا موسى عليه السلام من بني إسرائيل؟ وماذا حصل ليحيى الذي ذبح ذبحًا بالسكين؟ والذي نُشر والدهُ النبي زكريا عليه السلام بالمنشار؟ فهذه سُنةُ الله في الدعاةِ لدينه، فلو راجعنا وذاكرنا سير الأنبياء والأولياء نجد هذا.

وهذا سيدنا عمرُ بن الخطاب أميرُ المؤمنين رضي الله عنه يُقتل قتلًا، وهذا سيدنا عثمان بن عفان عليه رضوان الله صِهرُ النبّي محمّد زوج ابنتيه (تزوج الثانية بعدما ماتت الأولى) يُقتلُ قتلاً أيضًا، وهذا أمير المؤمنين عليّ بابُ مدينة العلم رضي الله عنه وأرضاه وخَتَنُ النبيّ على ابنتهِ الزهراء الطاهرة البتول، يُقْتَلُ وهو خارجٌ لصلاةِ الفجر على يدِ الخوارجِ لعنهُمُ الله، وهذا ابنُ الزبير ماذا فُعِلَ به؟ وهذا الحسن الذي قُتِلَ مسمومًا، وهذا الحسين الذي قُتِلَ في كربلاء وحصلَ في يوم مقتَلِهِ العجائب.

قُتِلَ الحسينُ رضي الله عنه وأرضاه في كربلاء على يدِ طُغْمَةٍ من الظَلمةِ الفاسقين الفاجرين، وهؤلاء الذين قتلوا الحسين ليسوا من عِباد الله المتقين، ولا نُحبهم، ولا نغار عليهم، بل هم فَسقة فَجرة. فالحسين خرج لنصرة الحق والدفاع عن الدين، خرج لمواجهة الباطل والمنكر، الحسين ما كان منتحرًا، الحسين رضي الله عنه عَمِلَ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أفضلُ الجهادِ كلمةُ عدلٍ عند سلطانِ جائر”

في تلك المعركة التي ارتكب الخُبثاء فيها من الفواحش والمنكرات العجائب، منعوه أن يستقي قطرة ماء من النهر لأولاده، لطفله الرضيع، للصبيان، للبنات، للنساء، هؤلاء ذرية النبيّ صلى الله عليه وسلم، هؤلاء أحبابُ الله، أحباب الرسول، هؤلاء أولاد النبيّ، أولاد بنته الطاهرة، مُنعوا من أن يشربوا الماء، مُنِعَ الحسينُ من أن يَسْتَقِيَ لهم ولو قطرة، وهو الذي نبع الماءُ من بين أصابع جدهِ المصطفى صلى الله عليه وسلم، مثَّلوا به، حزّوا رأسه الشريف المبارك، قتلوا طفله الرضيع بين يديه بسهمٍ أصابوه في حلقِه.

لقد جَمَعُوا في ظُلْمِ الحسين مالم يَجمَعْهُ أحد، وَمَنَعُوهُ أَنْ يَرِدَ الماءَ فيمَن وَرَد، وَأَنْ يَرْحَلَ عَنْهُمْ إلى بَلَدْ، وَسَبَوْا أَهْلَهُ وُقَتَلوا الوَلَدْ.

فكل مسلم ينبغي له أن يُحزنه قتل الحسين رضي الله عنه، فإنه من سادات المسلمين، ومن علماء الصحابة الكرام، وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي أفضل بناته، وقد كان عابدًا وشجاعًا وسخيًّا، وأحسن ما يقال عند ذكر هذه المصائب وأمثالها ما رواه ابن ماجه وأحمد عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “مَنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ، فَذَكَرَ مُصِيبَتَهُ، فَأَحْدَثَ استِرجاعًا، وَإِنْ تَقَادَمَ عَهْدُهَا، كَتبَ الله لهَ مِنَ الأجَرِ مِثلْهُ يَوْمَ أُصِيبَ “

معناه ” مَنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ ”  أي بشىءٍ يؤذيه في نفسه أو أهله أو ماله ” فَذَكَرَ مُصِيبَتَهُ ” تلك ” فَأَحْدَثَ استِرجاعًا ” أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ” وَإِنْ تَقَادَمَ عَهْدُهَا كَتَبَ الله لهَ مِنَ الأجَرِ مِثلْهُ يَوْمَ أُصِيبَ ” لأن الاسترجاع اعتراف من العبد بالتسليم وإذعان للثبات وحفظ الجوارح.

رحل الحسين إلى القوم، لأنه رأى الشريعة قد رفضت، فجدَّ في رفع قواعد أصّلها الجد صلى الله عليه وسلم، فلما حضروه حصروه، فقال دعوني أرجع. فقالوا: لا، انزل على حكمِ ابن زياد، فاختار القتل على الذُّل، وهكذا النفوس الأبية، ولقد تبع طريق الحسين عبد الله بن الزّبير، فإن الحجاج عرض عليه الأمان فقال: والله لضربةٌ بسيفٍ في عزّ أحبُّ إليَّ من حياةٍ في ذلّ! وكان يحاربهم وينشد:

إصبرْ عصامٌ إنه شِبراقْ  قد سنَّ أصحابُك ضرب الأعناقْ

وقامتِ الحربُ بنا على ساقْ

ولما أُسر العباسُ يوم بدرٍ سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنينه فما نام، فكيف لو سمع أنين الحسين؟ ولما أسلمَ وحشيّ قال له: ” غيّب وجهك عني ” (هذا كان بطريق العرض عليه من غير إيذاء له ولا تعنيفٍ عليه) هذا والله والمسلم لا يؤاخذ بما كان في الكفر، فكيف يقدر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُبصر من قتل الحسين؟

نبع الماء من بين أصابع جده، فما سقوه منه قطرة! كان الرسول صلى الله عليه وسلم من حبّ الحسين يقبلُ شفتيه، ويحمله كثيرًا على عاتقيه، ولما مشى طفلًا بين يدي المنبر نزل إليه، فلو رءاه مُلقى على أحد جانبيه والسيوف تأخذه والأعداء حواليه والخيل قد وطئت صدره ومشت على يديه، ودماؤه تجري بعد دموع عينيه لضجَّ الرسول صلى الله عليه وسلم مستغيثًا من ذلك ولعزَّ عليه.

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يومَ النحر بمكة: ” فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَلَا فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلَّالًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ أَلَا لِيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ” وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري وغيره: ” أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ ” وقال عليه السلام أيضًا فيما رواه البخاري: ” لَنْ يَزَالَ الْمَرْءُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا ” وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي والنسائي: ” وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَتْلُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا ” .

وقال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ  وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ  إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا (33)} سورة الإسراء.

قال ابن الجوزي رحمه الله:

سبحان من رفع للحسين بقتله مكانًا، ودمغ من عاداه فعاد بعد العز مهانا، ما ضره حين الشهادة من أوسعه خِذلانا {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} سورة الإسراء.

هلك أهل الزَّيع والعناد، وكأنهم ما ملكوا البلاد، وعاد عليهم اللعن كما عاد على عاد، أين يزيد أين زياد، كأنهما ما كانا لا كانا {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}

تمتعوا أيامًا يسيرة، ثم عادت أجنحة المَلكِ كَسيرة، وبقيت سيرة الحسين أحسن سيرة، ومن عزَّت عاقبته والسيرة فكأن لم يلق هوانا {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}

مُزّقِوا والله كلَ مُمَزَّق، وتفرقوا بالشَّتات أي مُتفرق، وظنُوا أنهم رفَوا ما جنوا فتخرَّقَ، إن ناصر المظلوم لا يتوانى {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}

تعززوا على مثل الحسين وطالوا، وظنوا بقاء الملك لهم بما احتالوا، وكيل لهم من الذم أضعاف ما كالوا، وعجل قلعهم من السلطة فزالوا سلطانًا سلطانًا {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}

ويلهم لو دُبروا أمرهم لرفعوا بطاعة الحسين قدرهم، ملكوا أيامًا ثم بقي الخزيُ دهرهم، اشتغلوا اليوم بتسبيحكم، ودعوا ذكرهم أهوانا {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}

حكم لعن يزيد بن معاوية:

لقد صرح بجواز لعن يزيد وأمثاله جماعة من أهل العلم منهم: الإمام أحمد رضي الله عنه كما ذكر ذلك الحافظ ابن الجوزي الحنبلي رحمه الله في كتابه (الرد على المتعصب العنيد المانع من ذم يزيد) حيث قال ما نصه: ” سألني سائل في بعض مجالس الوعظ عن يزيد بن معاوية، أيجوز أن يلعن ؟ فقلت: قد أجازها العلماء الورعون منهم أحمد بن حنبل “. وقال فيه ما نصه: ” وأما إنكاره ــ أي المتعصب العنيد ـ على من استجاز ذم المذموم ولعن الملعون فجهل صراح فقد استجازه كبار العلماء منهم الإمام أحمد بن حنبل، وقد ذكر أحمد في حق يزيد ما يزيد على اللعنة، فأنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي البزاز عن أبي إسحاق البرمكي عن أبي بكر عبد العزيز بن جعفر قال: ثنا مهنا بن يحيى قال: سألت أحمد عن يزيد بن معاوية فقال: هو الذي فعل بالمدينة ما فعل ؟ قلت: وما فعل ؟ قال: نهبها، قلت: فنذكر عنه الحديث قال: لا يذكر عنه الحديث، ولا ينبغي لأحد أن يكتب عنه حديثًا، قلت: ومن كان معه حين فعل ما فعل، قال أهل الشام “.

وفي حاشية البجيرمي على الخطيب: ” وعبارة الحلبي في سيرته أن للإمام أحمد قولًا بلعن يزيد تلويحًا وتصريحًا، وكذا للإمام مالك، وكذا لأبي حنيفة، ولنا قول بذلك في مذهب إمامنا الشافعي وكان يقول بذلك الأستاذ البكري “.

وقال التفتازاني في (شرح العقائد النسفية): ” اتفقوا على جواز اللعن على من قتل الحسين، أو أمر به، أو أجازه ” وكذلك لعنه الحافظ السيوطي في كتابه (تاريخ الخلفاء) بعد ذكر ما فعله بآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وعلى رأسهم سيد شباب أهل الجنة الحسين رضي الله عنه فقال: ” لعن الله قاتله ـ أي الحسين ـ وابن زياد معه ويزيد أيضا ” وقد أتبع الشيخ عبد الباسط الفاخوري ذكره ليزيد بقوله: “عليه ما يستحق” وفي موضع ءاخر سماه  “البغيض”.

ومن النصب السافر والغلو والظاهر ما اعاه مفتي السعودية في مقابلة تلفزيونية على قناة (المجد) حيث قال: (إن القادحين في معاوية وابنه يزيد قادحون في غير محله ظالمون لأنفسهم). !!!

ثم قال في الدفاع عنه: (يزيد له مواقف طيبة).!!!!! وليت شعري أي مواقف طيبة وهو الذي استباح عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتل من صحابته ما قتل، وتعدى على حرمات الله، ولكن لا يُستغرب هذا من الوهابية لأن أفعالهم في الحرم وترويعهم لأهله وإذلالهم لآل النبي صلى الله عليه وسلم يشهد أنهم متبعون ليزيد شبرًا بشبر، ولذلك هم يمجدونه ويعلون من شأنه، ولمن أراد أن يعرف ماذا فعل الوهابية عندما دخلوا الحرم فليقرأ كتاب الشيخ أحمد بن زيني دحلان رحمه الله فتنة الوهابية فإنه كان معاصرًا لفتنتهم، وكتابه خير شاهد على جرائمهم قبحهم الله تعالى.

ويكفي في بيان جواز لعنه الحديث الذي أخرجه الحاكم، والبيهقي في شعب الإيمان عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: ” سِتَّةٌ لَعَنْتُهُمْ لَعَنَهُمُ اللهُ وَكُلُّ نَبِيٍّ مُجَابٌ: الْمُكَذِّبُ بِقَدَرِ اللهِ، وَالزَّائِدُ فِي كِتَابِ اللهِ، وَالْمُتَسَلِّطُ بِالْجَبَرُوتِ يُذِلُّ مَنْ أَعَزَّ اللهُ وَيُعِزُّ مَنْ أَذَلَّ اللهُ، وَالْمُسْتَحِلُّ لِحُرُمِ اللهِ، وَالْمُسْتَحِلُّ مِنْ عِتْرَتِي مَا حَرَّمَ اللهُ، وَالتَّارِكُ لِسُنَّتِي “

ويزيد بن معاوية بن أبي سفيان هو الملك الجبار العنيد، جعله أبوه ولي عهده وأكره الناس على ذلك، وهو الذي استباح دماء خير أهل الأرض في زمانه الحسين بن علي، وءال بيته الطاهرين المطهرين، وقصة قتل الحسين مشهورة لا يحتمل القلب ذكرها، وهو الذي حصلت في زمانه وقعة الحرة وما أدراك ما وقعة الحرة، حيث ذكر الشيخ عبد الباسط الفاخوري في كتابه (تحفة الأنام): ” ثم إن بعد قتل الحسين عليه السلام ظهر عبد الله بن الزبير وبايعه أهل مكة والمدينة والحجاز وتهامة والعراق ونقضوا بيعة يزيد بن معاوية عليه من الله ما يستحق، جهز جيشًا وأمّر عليهم (مسلم بن عقبة المزني) وأمره بمحاربة ابن الزبير وقال له: (اجعل طريقك على المدينة فإن حاربوك فحاربهم، وإن ظفرت بهم فأبحها ثلاثًا) فسار مسلم بالعسكر حتى نزل الحرة فخرج أهل المدينة فعسكروا بها فدعاهم مسلم ثلاثًا فلم يجيبوا، فقاتلهم وقتل أمير المدينة عبد الله بن حنظلة وسبعمائة من المهاجرين والأنصار ولم يبق بدري بعد ذلك. ودخل مسلم المدينة فانتهبها عسكره ثلاثة أيام. وافتض فيها نحو ألف عذراء فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقد ورد في الحديث: ” مَنْ أَخَافَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَخَافُهُ اللهُ ” وذكر السيوطي في (تاريخ الخلفاء) هذا الحديث مع زيادة ” وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالـمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ” فبعد هذا كيف يُعتَرَض على لعنه؟؟

فإن قيل: ما الفائدة من لعنه بعد أن مات لأنه لا يتأتى زجره بعد موته ولا حتى التحذير منه خاصة وأن حاله مشهور معلوم عند المسلمين ؟  قلنا: بل هناك فائدة في لعنه وهي تحذير غيره من مثل فعله، وهذا من الأسباب التي تبيح لعن المعيَّن.

العظات والعبر من مقتل الحسن الشهيد رضي الله عنه:

كما أن حياة الحسين منار المهتدين، فاستشهاده عظة المعتبرين، وقدوة المستبسلين، ألم ترَ كيف اضطرّه الإصلاح إلى مواجهة الطغاة، وهو أعظم رجل في زمانه في العترة المحمدية، وأبت نفسه الكريمة الضيم والرضوخ للظلم، واختار الشرف على الذلّة. وتأمل عناية الله بالبيت النبويّ الكريم فيُقتل أبناء الحسين ولا يُترك منهم إلا صبيّ مريض مشرف على الهلاك، فيبارك الله في أولاده فيكثر عددهم ويعظم شأنهم. ومقتل الحسين بغَّض بني أمية إلى الناس وأيَّد حجة خصومهم وزعزع أوتاد ملكهم، وكان أكبر أسباب زوال دولتهم.

دفنه رضي الله عنه:

دفن الجسد الكريم بكربلاء، واختلف في محل رأسه، فقيل بدمشق وعليه أكثر المؤرخين ثم نقل إلى مصر.

وذكر هشام بن الكلبي أنّ الماء لما أجري على قبر الحسين ليمحى أثره نضب الماء بعد أربعين يومًا، فجاء أعرابي من بني أسد فجعل يأخذ قبضة قبضة ويشمّها حتى وقع على قبر الحسين فبكى وقال: بأبي أنت وأمّي، ما كان أطيبك وأطيب تربتك !! ثم أنشأ يقول: أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه فطيب تراب القبر دل على القبرِ.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءال بيته الأطهار وصحابته الأحرار وسلام على المرسلين وءاخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مواقيت صلوات اليوم

    عمان, الأردن
    الصلاةالوقت
    الفجر3:18 AM
    شروق الشمس4:54 AM
    الظهر11:34 AM
    العصر3:13 PM
    المغرب6:14 PM
    العشاء7:40 PM

إن المعرفة الحقيقية لدخول أوقات الصلاة تقوم على المراقبة، أما ما نذكره هنا فمن باب الاستئناس

إن أوقات الصلاة الظاهرة هي فقط لمدينة عمان، الأردن

قنوات التواصل الاجتماعي