زيد المصري - Zaid Al-Masri

سورة البروج – قصة أصحاب الأخدود

الحمد لله المبدئ المعيد، الغني الحميد، ذي العفوِ الواسع والعقاب الشديد، مَن هداه فهو السعيد السديد، ومن أضله فهو الطريد البعيد، ومن أرشده إلى سبيل النجاة ووفقه فهو الرشيد، يَعلَم ما ظهر وما بطن وما خَفِيَ وما عَلَنَ وهو أقرب إلى كل مُريدٍ من حبل الوريد، فسبحان من قسم عباده قسمين وجعلهم فريقين فمنهم شقي وسعيد، ﴿مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيد﴾ وأصلي وأسلم على رسول الهدى محمد الداعي إلى التوحيد، الساعي بالنصح للقريب والبعيد، وعلى صاحبه أبي بكر ذي الرأي الرشيد، وعلى عمر الذي جاء وصفه في التوراة قرن حديد أمير شديد، وعلى عثمان ذي النورين البطل الشهيد، وعلى علي صاحب العلم والقول السديد.

أما بعد:

فقد قال الله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الوَقُوْدِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)

وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)

إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)

ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَجِيْدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22)﴾ سورة البروج.

 وسورة البروج كُلُّهَا مَكِيَّةٌ بالإجماع وَءايَاتُهَا اثنَتَانِ وُعِشرُونَ ءايَةً. وقوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ البُرُوْجِ﴾: هِيَ البُرُوجُ الاِثنَا عَشَرَ: الحَمَلُ وَالثَورُ وَالجُوزَاءُ وَالسَرَطَانُ وَالأَسَدُ وَالسُنبُلَةُ وَالمِيزَانُ وَالعَقرَبُ وَالقَوسُ وَالجَديُ وَالدَلو وَالحُوتُ.

وَهِيَ مَنَازِلُ الكَوَاكِبِ السَبعَةِ السَيَّارَةِ. ﴿وَاليَوْمِ المَوْعُوْدِ﴾: هُوَ يَومُ القِيَامَةِ بِإِجمَاعِهِم. ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُوْدٍ﴾: قِيلَ شَاهِدٍ يَومُ الجُمُعَةِ وَمَشهُودٍ يَومُ عَرَفَةَ، وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ وَابنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ المـَشهُودُ يَومُ القِيَامَةِ. ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُوْدِ﴾: أَي لُعِنُوا.

وَالأُخدُودُ شِقٌّ يُشَقُّ فِي الأَرضِ وَالجَمعُ أَخَادِيدُ، وَهَؤُلَاءِ قَومٌ مِنَ الكُفَّارِ خَدُّوا أُخدُودًا فِي الأَرضِ وَسَجَّرُوهُ نَارًا وَعَرَضُوا المُؤمِنِينَ عَلَيهَا فَمَنْ رَجَعَ عَن دِينِهِ تَرَكُوهُ وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى الإِيمَانِ أَحرَقُوهُ.

وَأَصحَابُ الأُخدُودِ هُم الـمُحَرِّقُونَ لِلمُؤمِنِينَ. وقد بَعَثَ اللهُ عَلَى المُؤمِنِينَ رِيحًا فَقَبَضَتْ أَروَاحَهُم وَخَرَجَتِ النَّارُ فَأَحرَقَتِ الكَافِرِينَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى حَافَتَي الأُخدُودِ. وَذَكَرَ بَعضُهُم عِندَ تَفسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ قِصَةَ الغُلَامِ مَعَ السَاحِرِ وَقَد ذُكِرَت بِتِفَصِيلِهَا فِي مُسنَدِ أَحَمدَ وَصَحِيحِ مُسلِمٍ وَسُنَنِ التِرمِذِيِّ.

وفيها أنّ رَجُلًا من أتباعِ سَيِّدِنا عيسى ابنِ مريمَ ﷺ كان يقالُ له (فَيْمِيُونُ) كان هذا الرَّجُلُ صالحًا مجتهدًا زاهدًا في الدنيا مجابَ الدعوة، وكان لا يَسمعُ بقريةٍ إلّا خرَج إليها للدعوة إلى دين الإسلام،

وكان من بينِ المدنِ التي سكنها مدينةٌ يقالُ لها (نَجْرَانُ) فنشَر فيها الإسلامَ والتزمَ أهلُها تعاليمَ الإنجيلِ الصحيح قبل أن يُحَرَّف مُدَّةً من الزمَن، ثمّ دَخَلَتْ عليهمُ الأحداثُ وحَرَّفُوا الدينَ وحصَل الكفرُ وفشَا وعَمَّ،

وكان من أمرِ (فَيْمِيُونَ) عندما انتشَر الفسادُ أنْ بنَى خيمةً له خارجَ نَجْرَانَ يتعبَّد فيها وانقطَع عن الناس، وكانَ لنَجْرَانَ مَلِكٌ، وكان للملِك ساحرٌ يخدُم عندَه، ولَمّا صار هذا الساحرُ عجوزًا طلَب من الملِك أن يبعثَ له بغلامٍ ليُعَلِّمَهُ السِّحر،

وكانت خيمةُ فَيْمِيُونَ بينَ نَجْرَانَ وقريةِ الغلامِ الذي أرسلَه الْمَلِكُ ليتعلَّم السِّحر، وذاتَ يومٍ مَرَّ هذا الغلامُ واسمُه (عبدُ اللهِ بنُ الثامِر) بخيمةِ (فَيْمِيُونَ) فسمِعه يتلو الإنجيلَ الصحيحَ بصوتٍ عذب،

ونظَر فأعجبَه ما يَرَى منه من صلاةٍ وعبادة، فصار يجلِس إليه ويسمعُ منه حتّى أسلَم، فصار عابدًا لربِّه مُقِرًّا بوحدانيَّته وألوهيَّته، وما زال الغلامُ يسألُ فَيْمِيُونَ عن أحكامِ الإسلامِ حتّى تَرَقَّى الغلامُ في العِلْمِ والعبادة،

وكانَ الغلامُ عبدُ اللهِ بنُ الثامِر يتأخَّر أحيانًا عند فَيْمِيُونَ، فإذا وصَل عند الساحرِ ضَرَبَهُ الساحرُ لتأخُّره، وإذا جاء إلى أبيه مُتَأَخِّرًا ضَرَبَهُ أبوه، فشَكَا الغلامُ أمرَه إلى (فَيْمِيُونَ)،

فقال له: إذا خَشِيتَ الساحرَ فقل حبسَني أهلي، وإذا خَشِيتَ أهلَك فقل حبسني الساحر. وإنّما سمَح للغلامِ بالكَذِبِ كي لا يُظْلَمَ، لأنّه يتعلَّم الدينَ وأحكامَه في زمنٍ قَلَّ فيه المسلمون،

وكان في ذلك البلدِ حَيَّةٌ عظيمةٌ قَطَعَتْ طريقَ الناس، فمَرَّ بها الغلامُ يومًا وحمَل حَجَرًا ثمّ سَمَّى اللهَ تعالى ورماها بها فقتلها. ثمّ أتى الغلامُ (فَيْمِيُونَ) فأخبرَه فقال له: سيكون لك شأنٌ عظيم. وإنّك ستُبْتَلَى، فإنِ ابْتُليتَ فلا تَدُلَّ عليَّ أحدًا.

وصار الغلامُ إذا دخَل نَجْرَانَ لم يَلْقَ أحدًا بهِ ضُرٌّ إلّا قال له: يا عبدَ الله، أتُوَحِّدُ اللهَ وتدخُل في دينِ الإسلامِ وأدعو رَبِّي فيعافيَك مِمّا أنتَ فيه من البلاء؟ فيقول المريضُ: نعم.

فيتعلَّم المريضُ التوحيدَ ويَنْطِقُ بالشهادتينِ ويدعو له الغلامُ فيشفَى. حتّى لم يبقَ في نَجْرَانَ أحدٌ بهِ ضُرٌّ إلّا أتاهُ فاتَّبَعَهُ على أمرِه ودعا له فعُوفِيَ. وكان للملِك ابنُ عَمٍّ أعمى فلَمّا سمِع هذا الأعمى بالغلامِ وقَتْلهِ الحَيَّةَ أتاهُ بهدايا كثيرةٍ وقال له: ما ههُنا كلُّه لكَ إن أنتَ شفيتَني.

فقال الغلامُ: إنّي لا أَشْفِي أحدًا، إنّما يَشْفِي اللهُ مَنْ يشاء، فإن أنتَ ءامنتَ باللهِ دَعَوْتُ اللهَ لكَ فشفاكَ وعافاك. فتعلَّم التوحيدَ وءامنَ باللهِ وأسلَم فشفاهُ الله، فأتى ابنُ العَمِّ هذا إلى الملِك وجلَس إليه كما كان يجلِس سابقًا،

فقال له الْمَلِكُ الذي كان يدَّعي الألوهيَّة: مَنْ رَدَّ عليكَ بَصَرَك؟ قال: رَبِّي. قال الملِك: أَوَلَكَ رَبٌّ غيري؟! قال: رَبِّي ورَبُّكَ الله. فأخذَه فلم يَزَلْ يُعَذِّبُه حتّى دَلَّ على الغلام، فجيء بالغلام،

فقال له الملِك: يا غلام، قد بلَغ من سحرِك أنّك صِرْتَ تُبْرِئُ الأَكْمَهَ والأبرصَ وتفعلُ كذا وتفعلُ كذا؟! فقال الغلامُ: إنّي لا أَشْفِي أحدًا، إنّما يَشْفِي اللهُ. فأخذه فلم يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حتّى دلَّ على (فَيْمِيُون)

فجيءَ به فقيل له: ارجِع عن دينك! فأبى وكان مسلمًا صالحًا مُتَمَسِّكًا بدينه، فدعا الْمَلِكُ بالْمِنْشَارِ فوَضَعَهُ في مَفْرِقِ رأسِ (فَيْمِيُونَ) فشَقَّهُ حتّى وقع شِقَّاهُ! ولم يكتفِ الْمَلِكُ الكافرُ بذلك، بل جاء بابنِ عَمِّهِ وقال له: ارجِع عن دينك! فأبى، فدعا الْمَلِكُ بالْمِنْشَارِ فوَضَعَهُ في مَفْرِقِ رأسهِ فشَقَّهُ حتّى وقع شِقَّاهُ.

 ثمَّ جاءَ الْمَلِكُ بالغلامِ فقال له: ارجِع عن دينك! فأبى، فدَفَعَهُ إلى بعضِ جنودِه وقال لهم: اذهبُوا بهِ إلى قِمَّةِ جَبَلٍ فإن رجَع عن دينهِ فاتركوه وإلّا فاطرحوه إلى الأسفل! فذهبوا وصعِدوا به إلى قِمَّةِ جبلٍ عالٍ فدعا الغلامُ رَبَّهُ فقال: اللهمَّ اكفنيهِم بما شئتَ.

فاهتزَّ الجَبَلُ فسَقَطَ الجُنْدُ جميعُهم وقُتِلُوا وعاد الغلامُ إلى الملِك سَالِمًا ! فلَمّا رءاهُ استغربَ ودَهِشَ، ولَمّا سألهُ عن الجنودِ قال: كَفانيهِمُ اللهُ. وقد عاد الغلامُ إلى الملِك مَعَ أنّه كان قادرًا على أن يَفِرَّ من بطشِ الْمَلِكِ وظُلْمهِ،

وإنّما عاد لأجلِ أنّه كان يطمَع في أن يتراجعَ الْمَلِكُ عن كفرِه ويدخلَ في الإسلامِ فيكونَ إسلامُه سببًا في إسلامِ قومهِ. فدَفَعَهُ الْمَلِكُ إلى مجموعةِ جنودٍ ءاخَرينَ وقال لهم: اذهبوا بهِ فاحمِلوه في سفينةٍ فإذا صِرتم في وَسَطِ البحرِ فانظروا في الأمرِ فإن تراجع عن دينهِ فعودوا به وإلّا فاقذِفوه فيه.

فذهبوا به فدعا الغلامُ رَبَّهُ قائلًا: اللهمَّ اكفنيهِم بما شئتَ. فانقلبَت بهم السفينةُ فغَرِقَ الجنودُ جميعُهم وماتوا وعاد الغلامُ إلى الملِك سَالِمًا، فلَمّا رءاهُ دَهِشَ مَرَّةً ثانية ولَمّا سألهُ عن الجنود قال: كَفانيهِمُ اللهُ.

ثمّ قال للملِك: إنّك لستَ بقاتلي حتّى تفعلَ ما ءامُرُكَ به. قال: ما هو؟ قال: تجمَع الناسَ في مكانٍ واحدٍ وتصلِبني على جذعٍ ثمّ تأخُذ من جَعْبَةِ سهامي سهمًا واحدًا ثمّ تَضَعُهُ في القوسِ ثمّ تقول (بسمِ اللهِ رَبِّ الغلامِ) ثمّ ترميني، فإنّك إذا فعلتَ ذلكَ قتلتَني.

تنبيه: ما فَعَلَهُ الغلامُ كان جائزًا في شرعهِ لأنّ تَعَمُّدَ قتلِ الشخصِ نَفْسَهُ لإدخالِ غيرِه في الإسلامِ كان جائزًا في شرعهِ.

فجمَع الْمَلِكُ الناس وصلَب الغلامَ على جذعٍ ثمّ أخذ سهمًا من جَعْبَتهِ ونَفَّذَ ما أمَرَهُ به الغلامُ، ثمّ رماهُ فوقع السهمُ في صُدْغهِ، (وهو الموضع الذي بين العينِ والأذن) فوضع الغلامُ يدَه في صُدْغهِ في موضِع السهمِ فمات.

فقال الناس: ءامنّا برَبِّ الغلام لا إله إلّا الله، لا إله إلّا إلهُ عبدِ اللهِ بنِ الثامِر. فقال الوزراء للملِك: أرأيتَ ما كنتَ تَحْذَرُ، قد واللهِ نزَل بكَ حَذَرُكَ وءامنَ الناسُ وأسلموا. فاستشاط الْمَلِكُ غيظًا وغَضَبًا وأمرَ بإغلاقِ أبوابِ المدينة،

ثمّ شَقَّ في الأرضِ سبعةَ أخاديدَ طولُ الواحدِ منها أربعونَ ذراعًا، وعَرْضُه اثنا عَشَرَ ذراعًا، ثمّ طُرِحَ فيه النِّفْطُ والحَطَبُ وأُجِّجَتْ نيرانُها وبدأت ألسنةُ اللهَب تتصاعدُ منها،

ثمّ وقف الملِك وأعوانُه على جانبَي كلِّ أخدود فكان يؤتى بالمسلمِ فإن أبى الرجوعَ عن دينهِ قذفوه فيها وإلّا تركوه، فرَمَوْا في النار زُهاءَ عشرينَ ألفَ مسلمٍ من الرجالِ والنساء والأطفال،

حتّى إنّه جيءَ بامرأةٍ مسلمةٍ لها ثلاثةُ بنينَ أحدُهم رضيع، فقال لها الملِك: ارجِعي وإلّا قتلتكِ أنتِ وأولادَك! فأبَت، فألقى ابنَيها الكبيرَينِ، فلم تتراجع ثمّ هَمَّ بالصغيرِ ليلقيَه فبكَت، فأنطقَ اللهُ ابنَها الرضيعَ فقال: يا أُمَّاهُ اصبرِي ولا ترجِعي عن دينك. فألقاهُ وألقاها في إثرِه.

 ورُوِيَ أنّ المسلمينَ كانت تُقْبَضُ أرواحُهم قبل أن تَمَسَّهُمُ النار، ثمَّ بعد أن رمى الْمَلِكُ مَنْ رمى، ارتفعتِ النارُ من الأخدودِ فصارت فوق الملِك وأعوانهِ أربعينَ ذراعًا ثمّ وقَعت عليهم وأحرقتهم فذابوا وهلكوا جميعًا.

رواها الإمامُ مسلمٌ في (صحيحه) والتِّرْمِذِيُّ في (سننه) عن رسولِ الله ﷺ. قال الله تعالى ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الوَقُوْدِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)﴾.

وقوله تعالى: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُوْدِ النَّارِ ذَاتِ الوَقُوْدِ﴾: وهَذَا بَدَلٌ مِنَ الأُخدُودِ كَأَنَّهُ قَالَ قُتِلَ أَصحَابُ ﴿النَّارِ ذَاتِ الوَقُوْدِ﴾ أي مَا تُوقَدُ بِهِ. ﴿إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ﴾: أي عِندَ النَّارِ،

وَكَانَ المـَلِكُ وَأَصحَابُهُ جُلُوسًا عَلَى الكُرسِي عِندَ الأُخدُودِ يَعرُضُونَ لِلمُؤمِنِينَ عَلَى الكُفرِ فَمَن أَبَى ألقَوْهُ. ﴿وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُوْنَ بِالمُؤْمِنِيْنَ شُهُوْدٌ﴾: أي وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُوْنَ بِالمؤْمِنِيْنَ مِنْ تَعذِيبِهِم بِالإِلقَاءِ فِي النَّارِ إِنْ لَمْ يَرجِعُوا عَن إِيمَانِهِم ﴿شُهُوْدٌ﴾: أي حُضُورٌ.

﴿وَمَا نَقَمُوْا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوْا بِاللهِ العَزَيْزِ الحَمِيدِ﴾: أي مَا أَنكَرُوا عَلَيهِم إِلَّا إِيمَانَهُم، المَعَنَى مَا كَانَ إِنكَارُهُم عَلَيهِم إِلَّا لِإِيمَانِهِم ﴿بِاللهِ العَزَيْزِ﴾: أي الغَالِبِ. ﴿الحَمِيدِ﴾: أي المحمُودِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.

﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَىءٍ شَهِيْدٌ﴾: أَي أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرضَ وَهُوَ المالِكُ لَهُمَا، لَمْ يَخْفَ عَلَيهِ مَا صَنَعُوا فَهُو شَهِيدٌ عَلَى مَا فَعَلُوا.

﴿إِنَّ الَّذِيْنَ فَتَنُوْا المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوْبُوْا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحَرِيْقِ﴾: ﴿إِنَّ الَّذِيْنَ فَتَنُوْا المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ﴾: أَي أَحرَقُوهُم وَعَذَّبُوهُم. ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوْبُوْا﴾ مِن شِركِهِم وَفِعلِهِم ذَلِكَ بِالمُؤمِنِينَ.

﴿فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ﴾: بِكُفرِهِم. ﴿وَلَهُمْ عَذَابُ الحَرِيْقِ﴾: بِمَا أَحرَقُوا المُؤمِنِينَ. وَكِلَا العَذَابِينِ فِي جَهَنَّمَ عِندَ الأَكثَرِينَ. وَقَالَ بَعضُهُم عَذَابُ الحَرِيقِ فِي الدُنيَا بَأَنْ خَرَجَتِ النَّارُ فَأَحرَقَتهُم كَمَا تَقَدَّمَ.

﴿إِنَّ الَّذِيْنَ ءامَنُوْا وَعَمِلُوْا الصَالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الفَوْزُ الكَبِيرُ﴾: ﴿إِنَّ الَّذِيْنَ ءامَنُوْا﴾ المرَادُ بِهِ العُمُومُ لَا المطرُوحُونَ فِي النَّارِ فقط، لَهُم الفُوزُ الكَبِيرُ لِأَنَّهُم فَازُوا بِالجَنَّةِ.

﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيْدٌ﴾: قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَخذَهُ بِالعَذَابِ إِذَا أَخَذَ الظَلَمَةَ وَالجَبَابِرَةَ لَشَدِيد. ﴿إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيْدُ﴾: فِيهِ قَولَانِ أَحَدَهُمَا: يبدأُ الخَلَقَ وَيُعِيدُهُم قَالَهُ الجُمهُورُ. وَالثَانِي: يُبدِىءُ العَذَابَ فِي الدُنيَا عَلَى الكُفَّارِ ثُمَّ يُعِيدُهُ عَلَيهِم فِي الآخِرَةِ.

﴿وَهُوَ الغَفُوْرُ الوَدُوْدُ﴾: وَلَمَّا ذَكَرَ شِدَّةَ بَطشِهِ ذَكَرَ كَونَهُ غَفُورًا سَاتِرًا لِذُنُوبِ عِبَادِهِ، وَدُودًا لَطِيفًا لَهُم مُحسِنًا إِلَيهِم. وَقِيلَ: معناه الغَفُورُ لِلمُذنِبِينَ المؤمِنِينَ الوَدُودُ المتَوَدِّدُ إِلَى أَولِيَائِهِ بِالكَرَامَةِ.

﴿ذُوْ العَرْشِ المجِيْدُ﴾: خَصَّصَ العَرشَ بِإِضَافَتِهِ إِلَى نَفسِهِ تَشرِيفًا لِلعَرشِ وَتَنبِيهًا عَلَى أَنَّهُ أَعظَمُ المَخلُوقَاتِ أي حجما.

﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيْدُ﴾: أي لَا يُعجِزُهُ شَىءٌ. وَمَعنَى الفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَكوِينِ مَا سَبَقَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ لَا يُعجِزُهُ عَنْ ذَلِكَ شَىءٌ وَلَا يُمَانِعُهُ أَحَدٌ وَلَا يَحتَاجُ إِلَى استِعَانَةٍ بِغَيرِهِ.

﴿هَلْ أَتَاكَ حَدَيْثُ الجُنُوْدِ﴾: هَلْ أَتَاكَ أي يَا مُحَمَّدُ ﴿حَدَيْثُ الجُنُوْدِ﴾: وهو تَقرِيرٌ لِحَالِ الكَفَرَةِ، أَي قَد أَتَاكَ حَدِيثُهُم وَمَا جَرَى لَهُم مَعَ أَنبِيائِهِم وَمَا حَلَّ بِهِم مَنَ العُقُوبَاتِ بِسَبَبِ تَكذِيبِهِم، فَكَذَلِكَ يَحُلُّ بِقُرَيشٍ مِنَ العَذَابِ مثلَ مَا حَلَّ بِهِم، وَالجُنُودُ الجُمُوعُ المعدَّةُ لِلقِتَالِ وَهُم الَّذِينَ تَجَنَّدُوا عَلَى أَولِيَاءِ اللهِ.

ثُمَّ بَيَّنَ مَن هُم فَقَالَ: ﴿فِرْعَوْنَ وَثَمُوْدَ﴾: بَدَلٌ مِنَ الجُنُودِ. ﴿بَلْ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا فِي تَكَذِيْبٍ﴾: يَعنِي مُشرِكِي مَكَّةَ. ﴿فِي تَكَذِيْبٍ﴾: أي في تكذيبٍ لَكَ وَللقُرءَانِ أَي لَم يَعتَبِرُوا بِمَا كَانَ قَبلهُم.

﴿وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ﴾: لَا يَخفَى عَلَيهِ شَىءٌ مِنْ أَعمَالِهِمْ. ﴿بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَجِيْدٌ﴾: أَي كَرِيمٌ. لِأَنَّهُ كَلَامُ اللهِ وَلَيسَ كَمَا يَقُولُونَ بِشِعرٍ وَلَا كَهَانَةٍ وَلَا سِحرٍ. وَقِيلَ مَجِيدٌ أي عَظِيمٌ.

﴿فِي لَوْحٍ مَحْفُوْظٍ﴾: وَهُوَ اللَّوحُ المحفُوظُ. مِنهُ نُسِخَ القُرءَانُ وَسَائِرُ الكُتُبِ، فَهُوَ مَحفُوظٌ مِنَ التَحرِيفِ وَالزِيَادَةِ فِيهِ وَالنُقصَانِ مِنهُ وَمِنَ الشَيَاطِينِ.

وَرُوِيَ عَنْ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنْ طُولَهُ مَا بِينَ السَمَاءِ وَالأَرضِ وَعَرضَهُ مَا بَينَ المشرِقِ وَالمغرِبِ، وَهُوَ مِن دُرَّةٍ بَيضَاءَ، وَهُوَ جِرمٌ كَبِيرٌ، قِيلَ إِنَّهُ فَوقَ العَرشِ وَقِيلَ إِنَّهُ تَحتَهُ. وَاللهُ أَعلَمُ وَأَحكَمُ.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحابته الطيبين الطاهرين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

مواقيت صلوات اليوم

    عمان, الأردن
    الصلاةالوقت
    الفجر3:18 AM
    شروق الشمس4:54 AM
    الظهر11:34 AM
    العصر3:13 PM
    المغرب6:14 PM
    العشاء7:40 PM

إن المعرفة الحقيقية لدخول أوقات الصلاة تقوم على المراقبة، أما ما نذكره هنا فمن باب الاستئناس

إن أوقات الصلاة الظاهرة هي فقط لمدينة عمان، الأردن

قنوات التواصل الاجتماعي