زيد المصري - Zaid Al-Masri

التفكر في مخلوقات الله 3

الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي نَصَبَ مِنْ كُلِّ كَائِنٍ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ بُرْهَانًا، وَتَصَرَّفَ فِي خَلِيقَتِهِ كَمَا شَاءَ عِزًّا وَسُلْطَانًا، وَاخْتَارَ الْمُتَّقِينَ فَوَهَبَ لَهُمْ بِنِعْمَتِهِ عِلمًا وَإِيمَانًا، وعَمَّ الْمُذْنِبِينَ بِرَحْمَتِهِ عَفْوًا وَغُفْرَانًا، وَلَمْ يَقْطَعْ أَرْزَاقَ أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ جُودًا وَامْتِنَانًا، وَأَعَادَ شُؤْمَ الْحَسَدِ عَلَى الْحَاسِدِ لأَنَّهُ ارْتَكَبَ عُدْوَانًا، ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا﴾ حَكَمَ فِي بَرِيَّتِهِ فَأَمَرَ وَنَهَى، وَأَكْرَمَ الْمُؤْمِنَ إِذْ كَتَبَ الإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ، وَأَيْقَظَ بِمَوْعِظَتِهِ مَنْ غَفَلَ وَسَهَا، وَدَعَا الْمُذْنِبَ إِلَى تَوْبَةٍ لِغُفْرَانِ ذَنْبِهِ. خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ فجعلَه سَمِيعًا بَصِيرًا، وأَنْشَرَ زَرْعًا لَمْ يَكُنْ مَنْشُورًا، وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا وَالْقَمَرَ نُورًا بَيْنَ شَرْقِهِ وَغَرْبِهِ. لَيْسَ بِجِسْمٍ فَيُشْبِهُ الأَجْسَامَ، وَلا بِمُتَجَوِّفٍ فَيَحْتَاجُ إِلَى الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ، وَلا تَحْدُثُ لَهُ صِفَةٌ فَيَتَطَرَّقُ عَلَيْهَا انْعِدَامٌ، نَصِفُهُ بما وصَفَ نَفسَه مِنْ غَيْرِ كَيْفَ وَالسَّلامُ، وحاسب اللَّهُ الْجَهْمِيَّ وَالْمُشَبِّهَ. أَحْمَدُهُ حَمْدَ عَبْدٍ مُعتَرف بذَنْبِهِ، وَأُقِرُّ بِتَوْحِيدِهِ إِقْرَارَ مُخْلِصٍ مِنْ قَلْبِهِ، وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَءالِهِ وَصَحْبِهِ، أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ضَجِيعِهِ فِي تُرْبِهِ، وَعُمَرَ الَّذِي لا يَسِيرُ الشَّيْطَانُ فِي سَرْبِهِ، وَعُثْمَانَ الشَّهِيدِ لا فِي صَفِّ حَرْبِهِ، وَعَلَى عَلِيٍّ مُعِينِهِ وَمُغِيثِهِ فِي كَرْبِهِ. اللَّهُمَّ أَصْلِحْ كُلا مِنَّا بِإِصْلاحِ قَلْبِهِ، وَأَنْعِمْ عَلَيْهِ بِغُفْرَانِ ذَنْبِهِ، وَانْفَعْنِي وَكُلَّ مستَمِعٍ بِجَسَدِهِ وَلُبِّهِ.

 

أما بعد:

قال الله تعالى ﴿سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (53)﴾ سورة فصلت.

فقد أَمرَنا اللهُ تعالى بالتَّفَكُّر في مَصنُوعَاتِه، وأمَر عِبادَه أن يتَفكَّرُوا في حَالِ أنَفُسِهم وفي حَالِ هَذِه الأرضِ التي يَعِيشُون علَيها، وفي حَالِ العَالَم العُلويّ السّماءِ والنّجومِ،

فإنّ في التّفكّرِ زِيادةَ اليَقِينِ بكَمَالِ قُدرةِ اللهِ، وفي ذلكَ تَقويةَ الإيمانِ، وفي ذلكَ محبَّةَ اللهِ وغَيرَ ذلكَ منَ الفَوائد.

فالتّفكُّر يَزيدُ مِنْ خَشيَةِ اللهِ، والتّفكُّر الذي يحبُّهُ الله هو التّفَكُّر في مَصنُوعَاتِ الله.

فلِيَنظُر المرء في حالِ نَفسِه ويقولُ: أنَا كنتُ نُطفَةً، ثم اللهُ تَعالى خلَقَني إنسانًا بشَرًا سَويًّا، ثم طَوّرني مِنْ حَالةِ الضّعفِ إلى حَالةِ القُوّة. أليسَ الإنسانُ أوّلَ ما يُولَدُ لا يتَكلَّمُ ولا يَعلَمُ شَيئًا ولا يمشِي ولا يميّزُ مَا يَنفَعُه مما يَضُرُّه،

ثم اللهُ تَعالى يُطوّرُه منَ الضّعفِ إلى القُوّةِ بَعدَ أنْ كانَ ضَعِيفًا؟ بلى، اللهُ تعالى يَخلقُ فيهِ القُوّةَ والنّشاطَ، ثم هذا النّشَاطُ إنِ استَعمَلَهُ في الخيرِ فِيما يَنفَعُه لما بعدَ الموتِ في القَبر وفي الآخِرةِ فإنه يسعد.

فلْيَتفَكّرِ الإنسَانُ في حَواسّهِ الخَمسِ الظّاهِرَةِ، وهيَ السّمْعُ والبَصَرُ الشّمُّ والذَّوقُ واللَّمْسُ.

لِيَتفَكَّرْ في حَالِ نَفْسِه ومَا جَعَلَ اللهُ فِيهِ مِن نُطْقٍ بحُرُوفٍ وأَصْوَاتٍ ولُغَاتٍ ولِسَانٍ وشَفتَين وأضْرَاسٍ وأَسْنَانٍ، وكيفَ يَدخُلُ الطّعَامُ والشَّرَابُ مِن مَدخَلٍ واحِدٍ ويَخرُجَانِ مِن مَخرَجَينِ مُختَلِفَينِ بأوصَافٍ مُختَلِفَة.

وقَلبٍ يَنبُضُ وعُرُوقٍ يَجري فيها الدَّمُ، وكَبدٍ وكُلَى وطِحَالٍ ومَرَارَةٍ ومَعِدَةٍ وأمعَاءٍ، ودِمَاغٍ وأعصَابٍ وإحسَاسٍ وشُعُورٍ بالفَرَح والحُزْن، وحَرارةٍ وبرُودَةٍ ورُطُوبَةٍ ويُبُوسَةٍ وأخْلاطٍ مُختَلِفَةٍ، وتَغَيُّرِ أحْوالٍ وألوَانٍ وأَشكَالٍ وأحْجَام.

ولِيَتفَكَّرْ الواحد منَّا فِيمَا خَلَقَ اللهُ مِن طُيُورٍ بأَشْكَالٍ وأَلوانٍ وأَحْجَامٍ وأَصْواتٍ مُختَلفَةٍ، وكَيفَ تَطِيرُ في الهواءِ وتُسافِرُ طَويلا مِنْ بلَدٍ إلى ءاخَرَ وتَهتَدي إلى طَريقِها وتَهبِطُ سَلِيمَةً،

وكيفَ خَلَقَ نَحْلًا يَطِيرُ في الجِبال والوِديَانِ والسُّهُولِ، ويَأكُل مِنَ الأزهَار فيَخرُجُ مِن بطُونِهِا شَرابٌ مُختَلِفٌ أَلوَانُه فيهِ شِفَاءٌ للنَّاس.

ولْيَتفَكَّرْ فِيمَا خَلَقَ اللهُ مِنَ الأنعَامِ والخيُولِ وتَسخِيرِها لنَا ومَا خَلَقَ مِنَ السِّبَاع وجَوارِح الطَّير وحَشَراتِ الأرضِ وهَوامّها،

وما خَلَق مِنَ البِحَارَ والأنهار ومَا خَلَق فيها مِنَ الأسماكِ بأَشكَالٍ وأَحجَامٍ وأَلْوانٍ مختَلِفَة، وكيفَ تُسَافِرُ في البِحَارِ،

ومَا خَلَقَ في الأرضِ مِن نَباتَاتٍ وخُضَارٍ وفَواكِهَ بأَلوانٍ وأَشْكَالٍ وطُعُومٍ مُختَلِفَةٍ.

ولْيتَفَكَّرْ في السّماءِ ونُجُومِها المضِيئَةِ والكواكبِ السّيّارَةِ فيها بانتِظَام، وسَيرِ الشَّمسِ والقَمَر وما فِيهِما مِن مَنافِعَ للعِبَاد.

قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (53)﴾ سورة فصلت. معناه سَنُرِيهِم دَلائلَ وجُودِنا وقُدرَتِنا وعِلمِنا، وهَذا في الدُّنيا. وسَنُرِيهِم فَتْحَ البِلادِ شَرقًا وغَربًا وفَتحَ مَكّةَ. وهَذه الطّائراتُ مِن جُملَةِ الآيات.

قال تعالى: ﴿حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (53)﴾ أي القُرءانُ أو الإسلام.

ورَوَى أبو القَاسِم الأنصَاريّ أنّ رسولَ الله ﷺ قال: “لا فِكْرَةَ في الرّبّ” رواه السُّيُوطيّ في الدر المنثور والقُرطبيّ والفَخْر الرّازيّ وأبو حيان في تفاسيرهم.

معناهُ لا يَجُوز التّفَكُّر في ذاتِ الله لأنّهُ لا شَبِيهَ لهُ، أمّا التّفَكُّر في المخلُوقاتِ واجِبٌ. هَذا يُقَالُ لهُ استِدلالٌ عَقلِيّ على وجُودِ اللهِ وقُدرَتِه، لأنّ الاستِدلالَ: عَقلِيّ أو نَقلِيّ،

ثم المسلمُ قَد يُجَادِلُ مَن لا يؤمِنُ بالكُتُب السّمَاويّةِ أو يَدّعِي أنّهُ يؤمِنُ بالتّورَاةِ والإنجِيل ولا يؤمِنُ بالقُرءانِ، فهَذا كيفَ تُجادِلُه إذا كُنتَ لا تَعرِف الدّليلَ العَقلِيّ.

“لا فِكرَة في الرّبّ” معناهُ اللهُ لا يُدركُه الوَهْم، لأنّ الوَهمَ يُدركُ الأشياءَ التي لها وجُودٌ في الأرض، كالإنسانِ والغَمام والمطَر والشَّجَر وما أشبَه ذلك ولو لم يَره، ما كانَ جِسما كالعرش يتَصوّرُه،

وكذلكَ إذا ذُكِرَتْ لنا الجنّةُ، يُمكنُنا أن نتَصَوّرَها في أوهَامِنا فنُصَادِفَ في بعضِ الصّفاتِ ونخطِئ في بعضِ الصّفات.

لذلكَ التّفكُّر في مخلوقاتِ الله يَنفَعُ لأنّه يصِلُ بهذا الفِكر إلى قُوّة اليَقِين ويَزدادُ عِلمًا بقُدرَة اللهِ وكمَالِه.

فإنْ قِيلَ: قالَ النّبيُّ ﷺ: “تَفَكّروا في الخلْق ولا تفَكَّروا في الخَالِق” رواه  الربيعُ بنُ حَبِيب في مُسنَدِه. فَإنَّهُ مَنْهِيٌّ عنهُ، قُلْنَا هَذا لم يَثبُتْ حَديثًا مَرفُوعًا مِنْ كَلامِ النّبيّ ﷺ. المحَقّقُونَ مِنْ أهلِ الحَديثِ قَالوا إنّهُ ليسَ مِن كَلام النَّبيّ، ولَكنّهُ ثَبَتَ عن السَّلَف.

فقد رَوى البيهقيُّ بالإسنَادِ الصَّحِيح عن عبدِ اللهِ بنِ عبّاس أنّه قالَ: “تَفَكَّروا في خَلْقِ اللهِ ولا تَفَكَّرُوا في ذاتِ الله” لكنْ لا نَجزِمُ أنّ الرّسُولَ لم يَقُلْه، مُحتَمِل أنّهُ قالَ ومُحتَمِلٌ أنّه لم يَقُلْه،

وإذَا قُلنا رُوِي عن رسولِ اللهِ فَلا بَأسَ، أمّا أنْ نَقُولَ قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَلا يَنبَغي، لأنّ الشّىءَ الذي لم يَثبُت لا يُقَالُ فيهِ أَدَبًا قالَ رَسُولُ الله، إنّما يُقَالُ فيهِ رُوِيَ عن رَسُولِ الله،

ثم القرءانُ أمَرَ بتَعَلّم الأدلّةِ على العقَائدِ الإسلاميّةِ على وجُودِه تعَالى وعلى ثبُوتِ العِلم والقُدرَةِ والمشِيئَةِ والوَحْدَانِيّةِ إلى غَيرِ ذلكَ، أَمَرَ بالاستِدلالِ للوُصُولِ إلى إثبَاتِ هَذه الأشياء،

كذلكَ كلامُ ابنِ عَبّاس هَذا تَرغِيبٌ في مَعرفَةِ الدّليل على وجُودِ اللهِ وعلى وجُودِ قُدرتِه وعِلْمِه ومَشِيئَتِه وسَمعِه وبَصَره إلى غَيرِ ذلكَ مِنَ الصِّفاتِ التي يجِبُ مَعرفتُها عَيْنًا على كُلِّ مُكَلَّف.

فالحَاصِلُ أنّ النّهْي وَرَد عَنِ التّفَكُّرِ في الخَالِق معَ الأمر بالتَّفَكُّر في الخَلْق، فإنّهُ يُوجِبُ النّظَر والتّأَمُّلَ في ملَكُوتِ السّمَـواتِ والأرض، ليُستَدلَّ بذَلكَ على الصّانِع وأنّه لا يُشبِهُ شَيئًا مِن خَلْقِه، ومَن لم يَعرِف الخَالِقَ مِنَ المخلُوق كيفَ يَعمَلُ بهذا الأثَر.

وبَعضُهُم يَقُولُ حَديثُ: “لا فِكْرَةَ في الرَّبّ” ضَعِيف ولا يُحتَجُّ بهِ في العَقائد. يُقَالُ لهم هَذا الحديثُ يؤيّدُه مَا ثَبَت عن ابنِ عَبّاسٍ: “تَفَكَّرُوا في خَلْقِ اللهِ ولا تَفَكَّرُوا في ذاتِ الله” رواه البَيهقيّ. وهَذا إجماعُ أهلِ السُّنّة. فهذَا الحديثُ وإنْ كانَ ضَعِيفًا يَقْوَى بهذا.

فاللهُ أَمَرَنا بالتَّفَكُّرِ في المخلُوقَاتِ ولم يَأذَنْ لنَا بالتّفَكُّر في ذَاتِه. فاللَّهُ تَعَالَى لا تُدْرِكُهُ تَصَوُّرَاتُ الْعِبَادِ وَأَوْهَامُهُمْ.

وَقَدْ قَالَ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ رضي الله عنه الَّذِي هُوَ مِنْ مَشَاهِيرِ الصَّحَابَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ (42)﴾ سورة النجم. “إِلَيْهِ يَنْتَهِي فِكْرُ مَنْ تَفَكَّرَ” رَوَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الأَنْصَارِيُّ فِي شَرْحِ الإِرْشَادِ. أي إليه تنتَهي الأفكار، أي لا تصِلُ إليه الأفكار، معناه الأفكارُ والأوهام تَعجِزُ عن إدراكِ حقِيقةِ الله.

لذلكَ قالَ عُلَماءُ أهلِ الحَقّ: “مَهمَا تصَوّرْتَ ببَالِكَ فاللهُ بخِلافِ ذلكَ” وهو من كلام الإمام أحمد وغيره. ولذَلكَ نَهانا الشّرْعُ عن التّفَكُّر في ذاتِ الله وأَمَرَنا بالتّفَكُّر في مَخلُوقَاتِه، لأنّ التّفَكُّرَ في ذَاتِ اللهِ لا يُوصِلُ إلى نَتِيجَةٍ صَحِيحَةٍ، إنما مَعرفَةُ اللهِ باعتقادِ أنّ اللهَ لا يُشبِهُ شَيئًا كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه:

 الْعَجْزُ عَنْ دَرَكِ الإِدْرَاكِ إِدْرَاكٌ

وَالْبَحْثُ عَنْ ذَاتِهِ كُفْرٌ وَإِشْرَاكُ

رَوَاهُ الْفَقِيهُ الْمُحَدِّثُ بَدْرُ الدِّينِ الزَّرْكَشِيُّ الشَّافِعِيُّ.

ومَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا عَرَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ لا كَالْمَوْجُودَاتِ، وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ لا يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ فِي النَّفْسِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا وَاعْتَرَفَ بِالْعَجْزِ عَنْ إِدْرَاكِهِ،

أَيْ عَنْ مَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهِ وَلَمْ يَبْحَثْ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ لِلْوُصُولِ إِلَى حَقِيقَةِ اللَّهِ، فَهَذَا إِيـمَانٌ، وَهَذَا يُقَالُ عَنْهُ عَرَفَ اللَّهَ وَإِنَّهُ سَلِمَ مِنَ التَّشْبِيهِ،

أَمَّا الَّذِي لا يَكْتَفِي بِذَلِكَ وَيُرِيدُ بِزَعْمِهِ أَنْ يَعْرِفَ حَقِيقَتَهُ وَيَبْحَثَ عَنْ ذَاتِهِ وَلا يَكْتَفِي بِهَذَا الْعَجْزِ فَيَتَصَوَّرُهُ كَالإِنْسَانِ أَوْ كَكُتْلَةٍ نُورَانِيَّةٍ أَوْ يَتَصَوَّرُهُ حَجْمًا مُسْتَقِّرًا فَوْقَ الْعَرْشِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا كَفَرَ بِاللَّهِ تَعَالَى.

وقد قال العلماء: لا يَعْرِفُ اللَّهَ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَمَعْرِفَتُنَا نَحْنُ بِاللَّهِ تَعَالَى لَيْسَتْ عَلَى سَبِيلِ الإِحَاطَةِ بَلْ بِمَعْرِفَةِ مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى كَوُجُوبِ الْقِدَمِ لَهُ، وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ تَعَالَى كَاسْتِحَالَةِ الشَّرِيكِ لَهُ وَ مَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى كَخَلْقِ شَىْءٍ وَتَرْكِهِ.

حَتَّى الأَنْبِيَاءُ وَالأَوْلِيَاءُ لا يَعْرِفُونَ اللَّهَ تَعَالَى بِالإِحَاطَةِ وَإِنَّمَا اللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِذَاتِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَبِمَا يُحْدِثُهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ،

وَمَعْرِفَتُنَا نَحْنُ بِاللَّهِ إِنَّمَا هِيَ بِمَعْرِفَةِ مَا يَجِبُ لِلَّهِ مِنَ الصِّفَاتِ كالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالإِرَادَةِ وَالْقِدَمِ، وَمَعْرِفَةِ مَا يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى كَالْعَجْزِ وَالْحَجْمِ وَالشَّرِيكِ، وَمَعْرِفَةِ مَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ كَإِيْجَادِ شَىْءٍ وَإِعْدَامِهِ،

فَاللَّهُ تَعَالَى يَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ مَا يَشَاءُ وَيَتْرُكَ مَا يَشَاءُ أَيْ لا يَخْلُقَهُ.

قَالَ الإِمَامُ الرِّفَاعِيُّ: “غَايَةُ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ الإِيقَانُ بِوُجُودِهِ تَعَالَى بِلا كَيْفٍ وَلا مَكَانٍ”. وَالرِّفَاعِيُّ كَانَ فَقِيهًا مُحَدِّثًا مُفَسِّرًا أَلَّفَ تَآلِيفَ مِنْهَا كِتَابُ شَرْحِ التَّنْبِيهِ فِي الْفِقْهِ الشَّافِعِيِّ، تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسِمِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ وَسَبْعِينَ.

ومعنى كلامه أَنَّ أَقْصَى مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْعَبْدُ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ الإِيقَانُ أَيِ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ الَّذِي لا شَكَّ فِيهِ بِوُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى بِلا كَيْفٍ وَلا مَكَانٍ، فَقَوْلُهُ بِلا كَيْفٍ صَرِيحٌ فِي نَفْيِ الْجِسْمِ وَالْحَيِّزِ وَالشَّكْلِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ وَالْقُعُودِ إِذْ كُلُّ ذَلِكَ شَىْءٌ غَيْرُهُ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ.

فَالْكَيْفُ يَشْمَلُ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، فَمَنْ أَيْقَنَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ بِلا كَيْفٍ وَلا مَكَانٍ فَقَدْ وَصَلَ إِلَى غَايَةِ مَا يَبْلُغُ الإِنْسَانُ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ.

وقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ: “إِنَّهُ (أَيِ اللَّه) أَزَلِيٌّ لَيْسَ لِوُجُودِهِ أَوَّلٌ وَلَيْسَ لِوُجُودِهِ ءَاخِرٌ. وَإِنَّهُ لَيْسَ بِجَوْهَرٍ يَتَحَيَّزُ بَلْ يَتَعَالَى وَيَتَقَدَّسُ عَنْ مُنَاسَبَةِ الْحَوَادِثِ وَإِنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ مُؤَلَّفٍ مِنْ جَوَاهِرَ،

وَلَوْ جَازَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ صَانِعَ الْعَالَمِ جِسْمٌ لَجَازَ أَنْ تُعْتَقَدَ الأُلُوهِيَّةُ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَوْ لِشَىْءٍ ءَاخَرَ مِنْ أَقْسَامِ الأَجْسَامِ فَإِذًا لا يُشْبِهُ شَيْئًا وَلا يُشْبِهُهُ شَىْءٌ بَلْ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَأَنَّى يُشْبِهُ الْمَخْلُوقُ خَالِقَهُ وَالْمُقَدَّرُ مُقَدِّرَهُ وَالْمُصَوَّرُ مُصَوِّرَهُ”.

فمِن هنا نَعلَم أنّ على الإنسانَ أن يتَفكّر بمخلوقات الله فيَنظُر في أحوالِ العالَم وفي حالِ نَفسِه حتّى يَزدَادَ يَقينًا بوجُودِ الله الذي خَلَقَ هَذه الأشيَاءَ كُلَّها، لأنَّ الإنسَانَ إذَا فَكّرَ في حالِ نَفسِه يَعرفُ أنّه وُجِدَ بَعدَ أن لم يكن مَوجُودًا،

يَعلَمُ أنّه لم يَخلُق نَفسَه، كذلكَ حالُ الأبِ كذلك حالُ الأمّ كذلك حالُ الجدِّ كذلك مَن فَوقهُم كُلّ هؤلاء يَعلَمُون أنهم ما خلَقوا أنفُسَهُم.

ومما قَالَهُ بَعضُ الشُّعَراءِ في الاستِدلالِ على وجُودِ اللهِ مَا قَالَهُ أبو العتَاهِيَة وهوَ مِنَ المتقَدّمِينَ:

أَلا إنّــنَــا كُـلَّنـــا بَــائِــدٌ

 وأَيُّ بَني ءادَمٍ خَالِــــــدُ

 

فَيَا عَجَبًا كَيفَ يُعصَى الإلهُ

وأَمْ كَيفَ يَجحَدُهُ الجَاحِدُ

 

وَفي كُــــلِّ تَحرِيكَــــةٍ ءايَــــــةٌ

وفي كُلِّ تَســــــــــكِينَةٍ شَاهِدُ

 

 وفي كُلِّ شَــــــــــىءٍ لهُ ءايَةٌ

تَـــــدُلُّ على أنَّـــــهُ واحِــــدُ

 

وقال أبو نُواس ٍ:

تَــأَمَّلْ في رِيَاضِ الأرضِ وانْظُرْ

إلى ءاثَارِ مَا صَنَعَ الْمَلِيْكُ

 

عُيُونٌ مِنْ لُجَيْن ٍ شَـــاخِصَاتٌ

وأَحْدَاقٌ لها ذَهَبٌ سَـــبِيكُ

 

على قُضُبِ الزَّبَرجَدِ شَاهِدَاتٌ

بأنّ اللهَ لَيسَ لهُ شَــــــــــــــرِيكُ

يعني النَّرجِسَ. شَبَّهَ أبو نُوَاس النَّرجِسَ بأَورَاقِه البِيْض الْمُستَدِيرَةِ ومَا في وَسَطِه مِنَ الكُرَاتِ الذَّهَبِيَّةِ التي تُشْبِهُ عُيُونًا مِن ذَهَبٍ يُحِيطُ بها إطَارٌ مِن فِضّةٍ، على قَوائِمَ خُضْرٍ مِثلِ الزَّبَرجَد. لأنّ الزَّبَرجَدَ لَونُه أَخْضَر.

وأبو نُوَاس وصفَ زَهرَةَ النَّرجِس ذاتِ الأوراقِ البَيضَاء التي تَتوسَّطُها حِلَقٌ صَفرَاء فأَورَاقُها البَيضَاءُ وشَبَّهَها بالفِضَّةِ. وجَوفُها الأصفَرُ شَبّهَه بالذَّهَب، وعُرُوقُها الخَضرَاءُ شَبَّهَها بالزّبَرجَد.

يقول الله تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ ءايَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ (23)﴾ سورة الذاريات.

فمن نظر في مخلوقات الله وفي أَحْوَالِ نَفسِه فإنه يجد الدليل على وُجُودِ اللهِ وقُدرَتِه وحِكمَتِه وعِلمِه وكمَالِه.

قال تعالى ﴿وَفِي الْأَرْضِ ءايَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ معناه تَدُلُّ على الصّانِع وقُدرَتِه وحِكمَتِه وتَدبِيرِه، حَيثُ هيَ مَدحُوَّةٌ، كالبِسَاطِ لِمَا فَوقَها، وفيها الْمَسَالِكُ والفِجَاجُ للمُتَقَلّبِينَ فِيها،

وهيَ مُجَزّأةٌ، فَمِنْ سَهلٍ ومِن جَبَلٍ وصُلبَةٍ ورِخْوَةٍ وعَذَاةٍ وسَبِخَةٍ. (والعَذَاةُ: الأَرضُ الطَّيِّبة التُّرْبَةِ، الكَريمَةُ الْمَنْبِتِ. والسَبِخَةُ: هي الأَرضُ التي تَعلُوها الْمُلُوحَةُ ولا تَكَادُ تُنْبِتُ إِلا بعضَ الشّجَر)

وفي الأرض عيُونٌ مُتَفَجّرَةٌ، ومعَادِنُ مُتنَوّعَةٌ، ودَوابُّ مُنبَثَّةٌ مُختَلِفَةُ الصُّوَر والأشكَالِ، مُتَبايِنَةُ الهيئاتِ والأفعَال.

قال تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ ءايَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ أي للمُوَحّدِينَ الذينَ سلَكُوا الطَّريقَ السَّوِيَّ البُرهَانيَّ الموصِلَ إلى المعرفةِ.

فهُمْ نَظّارُونَ بعُيُونٍ باصِرَةٍ وأَفهَامٍ نَافِذَةٍ، كُلَّمَا رأَوا ءايَةً عَرَفوا وَجْه تأَمُّلِها فازْدَادُوا إيْقَانًا على إيقَانِهم.

ثم قال تعالى: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ﴾ في حَالِ ابتِدَائِها وتنَقُّلِها مِن حَالٍ إلى حَال، وفي بَواطِنها وظَواهِرها مِن عجَائِب الفِطَرِ وبدَائِع الخَلْق مَا تتَحَيَّرُ فيهِ الأذْهَانُ، وحَسْبُكَ بالقُلُوبِ ومَا رَكَزَ فيها مِنَ العُقُولِ،

وبالألسُنِ والنُّطْق ومخَارِج الحرُوفِ، ومَا في تَركِيبِها وتَرتِيبها ولطَائفِها منَ الآياتِ السّاطِعَةِ والبَيّناتِ القَاطِعَةِ على حِكمَةِ مُدَبّرِها وصَانعِها، مع الأسماع والأبصَار والأطرَافِ وسَائِر الجَوارح،

وتَأَتِّيْها لِمَا خُلِقَتْ لَهُ، ومَا سُوِّيَ في الأعضَاءِ مِنَ المفَاصِل للانْعِطَافِ والتَّثَنّي، فإنّهُ إذَا جَسَا (أيْ يَبِسَ) مِنها شَىءٌ جَاءَ العَجْزُ، وإذَا اسْتَرخَى أنَاخَ الذُّلّ، فتَباركَ الله أحسن الخالقين.

ثم قال تعالى: ﴿أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ أي أفلا تَنظُرُونَ نَظَرَ مَن يَعتَبِر.

ثم قال: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ (23)﴾ ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ﴾ أي المطَرُ. لأنّهُ سَبَبُ الأَقْوَاتِ.

وعن الحَسَن أنّه كانَ إذَا رأَى السّحَابَ قالَ لأصحَابِه: “فيهِ واللهِ رِزقُكُم ولكِنَّكُم تُحرَمُونَهُ بخَطَايَاكُم”.

وقوله تعالى: ﴿وَمَا تُوعَدُونَ﴾ أي الجنّةَ.

﴿وَفِي الْأَرْضِ ءايَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ (23)﴾ معناه لماذا لا يَستَدِلُّون على حَقِّيّة الإسلام بالتّفكُّر في مَلَكُوتِ السّماواتِ والأرض،

فكلُّ ما خلَق اللهُ دليلٌ على وجُودِ اللهِ وعِلمِه وحِكمَتِه وقُدرَتِه وإرادَتِه، لأنّه لولا وجُودُ موجودٍ حَيٍّ قادرٍ عالمٍ مُريدٍ أي ذي مَشِيئةٍ ما صحَّ عقلًا وجُودُ هذا العالَم.

والعقلُ له اعتبار في دينِ اللّه تعالى، ولذلكَ قال الله تبارك وتعالى: ﴿قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ (101)﴾ سورة يونس. معناه فكِّروا في قُلوبِكُم، تَعرفُون إن فكّرتم تَفكيرًا صَحيحًا أنّ كلَّ هذه الأشياء مخلوقَةٌ للّه تعالى.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحابته الطيبين الطاهرين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

مواقيت صلوات اليوم

    عمان, الأردن
    الصلاةالوقت
    الفجر2:57 AM
    شروق الشمس4:40 AM
    الظهر11:33 AM
    العصر3:13 PM
    المغرب6:26 PM
    العشاء7:57 PM

إن المعرفة الحقيقية لدخول أوقات الصلاة تقوم على المراقبة، أما ما نذكره هنا فمن باب الاستئناس

إن أوقات الصلاة الظاهرة هي فقط لمدينة عمان، الأردن

قنوات التواصل الاجتماعي