زيد المصري - Zaid Al-Masri

الهجرة النبوية – دروس وعبر 2

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم لد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، سبحانه موجود قبل الخلق فليس له قبل ولا بعد، ولا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا أمام ولا خلف، ولا كل ولا بعض، تعالى ربنا عن مشابهة الخلق واتخاذ الصاحبة والولد، هذا اعتقاد المؤمنين بربهم فمن اعتقده فقد رشد، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد لا من طريق العدد، ينصر رسله ومن تبعهم دون استعانة بأحد، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله خيرُ من ركع وسجد، وصلاة الله وسلامه على نبيه محمد الذي هاجر من ذاك البلد، تنفيذا لأمر ربه وليس هَرَبا من أحد، وعلى صاحبه أبي بكر الصديق فاديه بالروح والجسد، وعلى عمر الفاروق ناصر الدين وفي الحق أسد، وعلى عثمان كثير الطاعة والصبر الجَلَد، وعلى علي الذي حارب البغاة وما قعد.

أما بعد:

فقد استبشر المسلمون بقدوم النبي ﷺ إلى يثرب التي سميت بالمدينة المنورة لأنها نُوِّرت به ﷺ ، وقد ءاخى عليه الصلاة والسلام بين أهلها والمهاجرين وسمى أهلها الأنصار لأنهم نصروا دين الله تعالى، ثم بنى مسجده الشريف ومساكنه فيها،

وبه انطفأت فتنة عظيمة كانت بين قبيلتي الأوس والخزرج بيثرب، فصار المسلمون على قلب رجل واحد لا يُفرق بينهم طمع ولا دنيا ولا يباعدهم حسد ولا ضغينة حتى غَدَوا كالبنيان المرصوص يشد بعضهم أزر بعض،وقد قال ربنا في محكم التزيل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)﴾ سورة محمد.

وقد نصر الله نبيه وأيده وكان وعد الله حقا، فهو القائل عز وجل: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾ سورة غافر. فالله تعالى لا يحتاج إلينا لنصرة الرسول، بل نحن ننتفع إن نصرنا الرسول ونصرنا الدين ونحن ننضر إن تخاذلنا عن نصرة دين الله،

ومن هذا المعنى يقول الله تعالى: ﴿ إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ (40) ﴾ سورة التوبة. ولكن الله يمن على بعض عباده بأن يجعل نصرة الدين على أيديهم،

 

حال المهاجرون قبل الاسلام وبعده

فها هم المهاجرون قبل أن يدخلوا في دين الإسلام وينصروا رسول الله ﷺ، كان منهم من يئد ابنته ويقطع رحمه، ويفعل الفواحش ويسجد لصنم ينحته بيده، أو يصوره من تمر فإذا جاع أكله،

ولكنهم لما استجابوا لدعوة الله ورسوله ﷺ وهاجروا ابتغاء مرضاته، أعزهم الله تعالى وأرجعهم إلى بلادهم أعزاء فاتحين، وأنزل فيهم قرءانا يتلا إلى يوم القيامة حيث قال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ  أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)﴾ سورة الحشر

 

حال الأنصار قبل الاسلام وبعده

وكذلك لو نظرنا إلى حال الأنصار، فهاهم الأوس والخزرج، قبل هجرة النبي محمد ﷺ إليهم، كانوا في نزاع لا ينقطع، وكان اليهود يبثون بينهم أسباب الفرقة والاختلاف، فتشهب بينهم المعارك كيوم بعاث الذي اقتتل فيه الأوس والخزرج قتالًا عظيمًا، فأصاب كل منهما الآخر،

ولكنهم لما ءامنوا بالرسول ونصروه وصدقوا الله تعالى فيما عاهدوه عليه، انظروا كيف صار حالتهم، وكيف غدا شأنهم، أنزل الله تعالى فيهم قرءانًا يتلا إلى يوم القيامة يتعبد بتلاوته

حيث قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ  وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)﴾ سورة الحشر. ودعا لهم رسول الله ﷺ فقال: “اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار”

 

لماذا نحتفل بالهجرة؟

إخوة الإيمان: اعتاد المسلمون في كل سنة على الاحتفال بذكرى الهجرة العطرة، ولكن هنالك ثمة سؤال، لماذا نحتفل بالهجرة ؟ ألمجرد سرد القصص في كل مرة؟!  ولعل البعض حفظ قصة الهجرة كما يحفظ اسمه،

لا، ليس لمجرد ذلك فقط، بل لأخذ الدروس الحقيقية والعبر، ولينعكس ذلك على أفعالنا وأقوالنا وأحوالنا لنعلم أننا إن نصرنا الله ينصرنا الله كما نصر المهاجرين والأنصار،

حتى قال فيهم: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)﴾ سورة التوبة.

 

نصرة الدين

وليعلم أن نصرة الدين لا تكون بمجرد الأقوال دون أفعال، فكثير من الناس من يقول: كان الصحابة وفعل الصحابة… ثم إذا قيل له تصدق في سبيل الله، أو طُلب منه أن يبذل اليسير في سبيل الله، نجده يتقاعس ويتراجع، فكأنما هي شعارات يرفعها دون فهم لمعناها،

أما صهيبٌ الرومي رضي الله عنه فلم يكن كذلك، فإنه لما تبعه المشركون ليمنعوه من الهجرة إلى رسول الله ﷺ قائلين له: لا ندعك تهاجر إلى محمد، قد جئتنا صعلوكًا لا مال لك والآن تخرج بمالك إلى محمد، والله لا ندعك تهاجر، فقال لهم: “أرأيتم إن أخبرتكم عن مكان مالي بمكة أتتركوني أهاجر؟” قالوا: نعم، فأخبرهم فتركوه،

فلما أتى المدينة استقبله رسول الله ﷺ ضاحكًا مبشرًا له قائلا: “ربح البيع أبا يحيى ربح البيع أبا يحيى” ويا ليت شعري كيف لا يربح من باع الدنيا واشترى الآخره، بلى والله إنها تجاره رابحة، إنها تجارة مع رب العالمين الذي يُظهر من بركاته على من شاء من عباده،

 

فها هي امرأه ضعيفة كانت ممن سبق رسول الله ﷺ بالهجرة فمات ولدها في الطريق إلى المدينة، أصابه مرض فمات، فتملكها الحزن والجزع فقالت: “اللهم إنك تعلم أني ما هاجرت إلا ابتغاء مرضاتك ومحبة فيك وفي نبيك فلا تشمت بي الأعداء” فتحرك ولدها من تحت الكفن وقام في الحال، أحياه الله تعالى بعد أن أماته، حتى قال راوِ القصة: فطعم وطعمنا وبقي حيًّا إلى خلافة عمر رضي الله عنه.

 

لا تحزن إنَّ الله معنا

﴿ إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ فإن كان اللهُ معكَ يا سيدي يا رسول الله فمن عليك، إن كان اللهُ هو الذي يؤيدُكَ فلن يؤثِّر على طَرَفِ نعلكَ جحافل الكفر والشرك،

﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ﴾ فالله سبحانه أنزلَ القرءان فيه الشهادة للصديق رضي الله عنه وأرضاه لأن اللهَ رضيه صاحبًا لنبيهِ واختاره ليكون صديقًا صدوقًا أمينًا على سيد العالمين محمد على سيد الخلق محمد الذي قال له: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ وهذا تأييدٌ لأبي بكرٍ الصديق، ولم يقل (إن الله معي)

الله يُخبرنا عما قاله الرسولُ لأبي بكر رضي الله عنه: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ وهذا تأييد من الله، أنزل اللهُ تعالى الوحي ليكونَ دالًا على صدق وشرف وعلو ورتبة ومنزلة ودرجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ فهو على حال مرضيّ

﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ يعني الله يُحبه والله ناصرهُ، والله عالمُ الغيبِ والشهادة عالمٌ في الأزل أن الصديق يكون على حال مرضي، يثبت على ما يرُضي اللهَ إلى الممات، لا يتحول ولا ينقلب إلى الخيانة ولا إلى الفسق ولا إلى ترك العهد بل يموت على حالة الرضا والكمال وإلا فكيف نزل القرءانُ بتأييدهِ.

 

معنى إن الله معنا

ومعنى ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ معناه حافظُنا، مؤيدُنا ناصرُنا، وليس معناه أن الله كان حالًا في الغار معهما، حاشى لله فهو الذي قال: ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ نفيٌ للمادية والانحلال، أي أن اللهَ لا يَحُلُّ في شىء ولا ينحلُ منه شىء ولا يحلُّ هو في شىء لأنه ليس كمثله شىء، فربُّنا منزهٌ عن الحلول والاتحاد،

وهذه الآية فيها الرد على الذين ينسبون لله الولد وعلى الذين يشبهون الله بخلقه، وعلى الذين يعتقدون أن الله تعالى أصل لشىء أو أنه فرع عن شىء، فالله ليس أصلًا لشىء ولا فرعًا عن شىء، لا كالجد ولا كالحفيد، لا كالأب ولا كالابن، لا كالشجرة ولا كالغُصن،

والله تعالى يقول: ﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ﴾ فربنا لا شبيه له، والله لا زوجة له ولا ولد له ولا والد له ولا شريك له ولا ضد له ولا ند له لا حجم له لا كمية له لا صورة له

لأنه قال في القرءان: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ فربنا ليس كالهواء، ليس كالضوء ليس كالظلام ليس كالروح ليس كالريح ليس كالغيم، ربنا سبحانه لا يشبه الإنس ولا الجن ولا الملائكة لا يوصف بالحجمية ولا بالجسمية ولا بالكمية لا يوصف بالحركة ولا بالسكون ولا بالانتقال ولا بالتغير ولا بالتطور ولا بالتبدُّل لا يوصف بالقعود ولا بالجلوس لا بالاتصال ولا بالانفصال،

لأنه الخالق والخالق العظيم عظَمَتُهُ أنه لا يشبه شيئًا، وإلا لو أشبهنا لكان مثلَنا، لو أشبهنا لكان عاجزًا مثلنا وهذا مستحيل على الله، عظمةُ الخالق أنه لا يشبه شيئا لا يشبه أحدا، فمعنى ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ أي حافظُنا وناصرنا ومؤيدنا، هذا معناه.

 

الهجرة تنفيذًا لأمر الله

وليعلم أن هجرة رسول الله ﷺ لم تكن هربًا ولا خوفًا ولا فزعًا من المشركين ولا يأسًا من واقع الحال، بدليل أنه لم يهاجر في نفس اليوم الذي نزل عليه الوحي بل بقي في مكة مدة طويلة، بقي فيها ثلاث عشرة سنة حتى جاءه الإذن بالهجرة فهاجر، هاجر بعد ثلاث عشرة سنة من البعثة، تنفيذًا لأمر الله،

فلا يجوز أن يقال عن رسول الله إنه هرب لأن هذه الكلمة تشعر بالجبن، ورسول الله ﷺ أشجع البشر، وكذلك لم تكن هجرته حبًا في الشهرة والجاه والمال والسلطان، وليس طلبًا للراحة،

لو أراد المصيف لاختار الطائف على المدينة، والطائف كما تعرفون قريبة من مكة وهواؤها طيب، وباردة وفيها الورد والعنب والرمان، هي مصيف، كجبال الشام، كجبال لبنان، ولكنه لا يريد الدنيا، لا يريد الاصطياف، لا يريد الملك، ولا يريد النساء ولا يريد الزعامة، بل توجهَ إلى حيثُ أمره الله، إلى المدينة،

والمدينة كما تعرفون، وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم: “مَنْ صَبَرَ عَلَى لَأْوَاءِ الْمَدِينَةِ وَشِدَّتِهَا كُنْت لَهُ شَهِيدًا أَوْ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ” ما معنى “على لَأْوَاءِ الْمَدِينَةِ” أي على شدة حرها وعلى شدة بردها، المدينة معروفة حرها حر وبردها برد، فهو ذهب إلى المدينة تنفيذًا لأمر الله

وهو لا يريد الدنيا، وهو القائل عليه السلام: “ما لي وللدنيا وما للدنيا ولي، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها”

 

وقد ذهب إليه عليه السلام أشراف مكة وسادتها فقالوا له: إن كنت تريد ملكًا ملكناك إياه، ولكن النبي الأعظم ﷺ أشرف وأسمى من أن تكون مقصوده الدنيا، فهو يعلم يقينًا أنها دعوة حق ورسالة هدى لا بد أن يأديها كما أمره الله،

جاء المشركون إلى أبي طالب في مكة فقالوا له: ماذا يريدُ محمدًا منا ؟! قُل لابن أخيكَ إن كان يريدُ الملك توَّجناهُ علينا (وضعنا له تاج الملوك) وإن كان يريدُ المال جمعنا له حتى كان أغنانا، وإن كان يريدُ النساء زوجناه،

فكلمه أبو طالب فاسمعوا ماذا قال الرسول اسمعوا جواب سيد الرجال وأعظم الزعماء والقادة اسمعوا جواب قائد السادات وسيد القادات، قال: “واللهِ يا عم لو ضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركتُه حتى يظهره الله أو أهلِكَ دونه”

الله أكبر، هذا جواب المتوكل على الله، الذي لا يخشى في الله لومة لائم، لو اجتمعت عليه جحافِلُ الشركِ وجيوشُ الباطل لا تحركُ طرف نعلِه الشريف، فهو مؤيد من الله، موفق من عند الله، منصور من عند الله، فليقف الرجال والقادة والكبار عند هذا الجواب وليتمعنوا فيه وفي معانيه وليثبتوا على ما كان عليه الرسول من الثبات على الحق وعدم التراجع عنه مهما حصل فالدنيا إلى زوال والله مُحولُ الأحوال.

 

نسأل الله تعالى أن ينفعنا ببركة هذه الذكرى المباركة إنه على كل شئ قدير وصلى الله على سيدنا محد وعلى ءاله وصحابته الطيبين الطاهرين وسلام على المرسلين وءاخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مواقيت صلوات اليوم

    عمان, الأردن
    الصلاةالوقت
    الفجر2:58 AM
    شروق الشمس4:40 AM
    الظهر11:33 AM
    العصر3:13 PM
    المغرب6:25 PM
    العشاء7:56 PM

إن المعرفة الحقيقية لدخول أوقات الصلاة تقوم على المراقبة، أما ما نذكره هنا فمن باب الاستئناس

إن أوقات الصلاة الظاهرة هي فقط لمدينة عمان، الأردن

قنوات التواصل الاجتماعي