زيد المصري - Zaid Al-Masri

الهجرة النبوية المباركة 1

الحمدُ لله الواحد القهار، القوي العزيز الرؤوفَ الغفار، المرئي بالأعين والأبصار في الآخرةِ دار القرار، بلا كيفٍ ولا مكان ولا صورةٍ ولا مقدار، سبحانهُ صرّفَ الأمورَ وقدّرَ الأقدار، وكوّرَ الليلَ على النهارِ، تذكرةً لأولي القلوب والأبصار، وتبصرةً لذوي الألبابِ والاعتبار، فهو الذي بصّرَ من أحبّهُم من خَلقِهِ فَزَهَّدَهُمْ في هذه الدار، وشغلهم بمراقبته وإدامة التفكُّرِ والادّكار، وملازمة الاتعاظ والأذكار، ووفقهم للدأبِ في طاعتهِ والتأهُب للجنّةِ دارُ القرار، والصلاةُ والسلام على النبيّ العربيّ القرشيّ المختار، سيدنا وحبيبنا محمدٍ صاحبِ الهجرة كثير الأنوار، الذي اصطفاه ربّهُ فجعله إماما للمتقينَ وسيدا للأبرار، وقدّمَهُ وفضّلَهُ على كافةِ خلقهِ بالاصطفاءِ والاختيار، وعلى صاحبهِ أبي بكرٍ ثاني اثنينِ اذ هما في الغار، وعلى عمر الذي أنفق في سبيلِ الله الدرهم والدينار، وعلى عثمان الذي استحت منه الملائكةُ الأبرار، وعلى عليّ وكم لعليٍّ من فضلٍ وأسرار.

أما بعد:

يقول الله تعالى: ﴿ إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم (40) ﴾ سورة التوبة.

لقد جاءت هجرة رسول الله ﷺ بأمر من ربه عز وجل، لتعلن نهاية عهد الاضطهاد والاستبداد، وبداية فجر مشرق وعهد مجيد، ومن هناك من يثرب، انبثق نور الدعوة قويًا وضاءً، وانطلقت كلمة الحق تحملها القوافل وتبشر بها أصوات الدعاة إلى الصلاة في كل أذان، حتى أتم الله على المسلمين النعمة وجاب عنهم كل محنة ودخل الناس في دين الله أفواجا، وأذن مؤذن الحق في إباء وعزة الله أكبر الله أكبر، جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا.

 

وكان رسول الله ﷺ يدعو إلى الله جهرًا ويمرّ بين العرب المشركين حين كانوا يجتمعون من نواح شتى في الموسم ويقول: “يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا” ويبين لهم أنه رسول الله، ودعا ﷺ إلى العدل والإحسان ومكارم الأخلاق ونهى عن المنكر والبغي،

وقد أيده الله بالمعجزات الباهرات الظاهرات فنشر الإسلام في الدنيا بعدما اسودت الأرض بالظلم والشرك والكفر والضلال، فانبثق نور الإيمان من مكة بعدما عم الشرك وجه البسيطة، وكان الناسُ في مكة يتفاخرونَ بالمنكرات ويتباهونَ بالمحرمات والفسق والفجور، وكانوا يئدون البنات، وكانوا يطوفون عُراةً حول الكعبة ويُصَفِّرُون،

فلما بعث الله محمدًا ﷺ فضائت الدنيا به عليه السلام دعا إلى الإسلام وعبادة الله، فاغتاظ الكفار من دعوته فهم يعبدون أصناما متعددة، يعبدون الحجر والخشب، وكان منهم من يصنع صنمًا من تمر ليعبده فإذا جاع أكله !

وبعد ذلك صار المشركون يتتبعون الفقراء الذي يسلمون والأرقاءَ الذين يؤمنون فيعذبونهم وبضربونهم ويحبسونهم ويقتلونهم، وذلك لأنهم أسلموا واتبعوا الرسول ﷺ، لأنهم قالوا ربنا الله، لأنهم قالوا: لا إله إلا الله، إلى أن أُذن للرسول بالهجرة إلى المدينة.

 

وفي بادئ الأمر ءامن به بعض الناس كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وغيرهم، فاشتد عليهم الأذى فهاجر بعض أصحاب النبي إلى الحبشة الهجرة الأولى لدعوة الناس للإسلام وكانوا نحو ثمانين، منهم عثمان بن عفان وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما،

ولما كثر أنصار رسول الله ﷺ بيثرب أمر الله نبيه محمدًا ﷺ ومن معه من المسلمين بالهجرة إليها بعد بعثته ﷺ بثلاث عشرة سنة، فصار المسلمون يهاجرون أفواجًا أفواجًا.

 

قصةِ خروجِ رسولِ اللهِ ﷺ مِنْ مكةَ

لَمَّا رأتْ قريشٌ أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قدْ صارَ لهُ أصحابٌ بغيرِ بلدِهِمْ، ورَأَوْا خروجَ أصحابِهِ مِنَ المهاجرينَ إليهِمْ، عَرَفُوا أنَّهُمْ قدْ نَزَلُوا دارًا وأصابُوا جوارًا وَمَنَعَةً، فخافُوا خروجَ رسولِ اللهِ ﷺ، وعرفُوا أنَّهُ قدْ أجمعَ لحربِهِمْ،

فاجتَمَعُوا لهُ فِي دارِ النَّدوةِ (وهيَ دارُ قصيِّ بنِ كلابٍ) التي كانتْ قريشٌ لَا تقضِي أمرًا إلَّا فيهَا، يَتَشَاوَرُوْنَ فيهَا مَا يَصْنَعُوْنَ فِي أمرِ النبيِّ ﷺ حينَ خافُوْهُ. فاجتمعُوا لذلكَ، وكانَ ذلكَ اليومُ يسمَّى يومَ الزَّحْمَةِ،

فاعتَرَضَهُمْ إبليسُ لعنَهُ اللهُ فِي هيئةِ شيخٍ نجديٍّ، فَوقَفَ علَى بابِ الدارِ، فلمَّا رَأَوْهُ واقِفًا علَى بابِهَا قالُوا: مَنِ الشّيخُ؟ قالَ: شيخٌ مِنْ أهلِ نجدٍ سمعَ بالذي اجتَمَعْتُمْ لهُ فَحَضَرَ مَعَكُمْ لِيَسْمَعَ مَا تقولونَ وعسَى ألَّا تَعْدَمُوا مِنْهُ رأيًا ولَا نُصْحًا.

قالوا: أجلْ فَادْخُلْ، فَدَخَلَ مَعَهُمْ، وقدِ اجتمعَ فيهَا رجالٌ مِنْ قريشٍ. فقالَ بعضُهُمْ لبعضٍ: إنَّ هذَا الرجلَ قدْ كانَ مِنْ أمرِهِ مَا قدْ رَأَيْتُمْ، وإنَّا واللهِ مَا نَأْمَنُهُ علَى الوثوبِ علينَا بِمَنْ قدِ اتَّبَعَهُ مِنْ غيرِنَا فَأَجْمِعُوا فيهِ رأيًا. قالَ: فَتَشَاوَرُوا

ثمَّ قالَ قائلٌ منهُم: احبسوهُ فِي الحديدِ وأَغْلِقُوا عليهِ بابًا، ثُمَّ تربَّصُوا بهِ مَا أصابَ أشباهَهُ مِنَ الشعراءِ الذينَ كانُوا قبلَهُ ومَنْ مضَى منهُمْ مِنْ هذَا الموتِ حتَّى يصيبَهُ مَا أصابَهُمْ.

فقالَ إبليس لعنَهُ اللهُ: لَا واللهِ مَا هذَا لكمْ برأيٍ، واللهِ لَوْ حَبَسْتُمُوْهُ كمَا تقولونَ لَيَخْرُجَنَّ أمرُهُ مِنْ وراءِ البابِ الذي أَغْلَقْتُمْ دونَهُ إلَى أصحابِهِ، فَلَأَوْشَكُوا أنْ يَثِبُوا عليكُمْ فَيَنْتَزِعُوْهُ مِنْ أيديكُمْ، ثُمَّ يُكَاثِرُوْكُمْ بهِ حتَّى يَغْلِبُوْكُمْ علَى أَمرِكُمْ، مَا هذَا لكمْ برأيٍ فانظُرُوا فِي غيرِهِ،

فتَشَاوَرُوا ثمَّ قالَ قائلٌ منهُمْ: نُخْرِجُهُ مِنْ بينِ أَظْهُرِنَا فَنَنْفِيْهِ مِنْ بلادِنَا، فإذَا خرجَ عنَّا فواللهِ مَا نُبَالِي أينَ ذهبَ ولَا حيثُ وقعَ، إذَا غابَ عنَّا وفَرَغْنَا منهُ فَأَصْلَحْنَا أَمْرَنَا.

فقالَ إبليس لعنَهُ اللهُ: لَا واللهِ، مَا هذَا لكُمْ برأيٍ، ألمْ تَرَوا حُسْنَ حديثِهِ وحلاوةَ مَنْطِقِهِ وغَلَبَتَهُ قلوبَ الرجالِ بمَا يأتي بهِ؟! واللهِ لوْ فعلتُمْ ذلكَ مَا أَمِنْتُمْ أنْ يَحِلَّ علَى حيٍّ مِنَ العربِ فَيَغْلِبَ عليهِمْ بذلكَ مِنْ قولِهِ وحديثِهِ حتَّى يُتَابِعُوْهُ عليهِ، ثمَّ يسيرَ بهمْ إليكُمْ حتَّى يَطَأَكُمْ بهِمْ فِي بلادِكُمْ، فيأخذَ أمرَكُمْ مِنْ أيديكُمْ، ثمَّ يفعلَ بكُمْ مَا أرادَ، دَبِّرُوا فيهِ رأيًا غيرَ هذَا.

فقالَ أبو جهلٍ بنُ هشامٍ لعَنَهُ اللهُ: واللهِ إنَّ لِي فيهِ لرأيًا مَا أراكُمْ وَقَعْتُمْ عليهِ بعدُ. قالُوا: ومَا هوَ يَا أبَا الحكمِ؟

قالَ: أرَى أنْ تأخذُوا مِنْ كلِّ قبيلةٍ فتًى شابًّا جَلْدًا نَسِيْبًا وَسِيْطًا، ثمَّ نعطي كلَّ فتًى منهُمْ سيفًا صارمًا، ثمَّ يَعْمَدُوا إليهِ بِأَجْمَعِهِمْ فيضرِبُوهُ بهَا ضربةَ رجلٍ واحدٍ، فَيَقْتُلُوهُ فنستريحَ منهُ، فإنَّهم إنْ فعلُوا ذلكَ تَفَرَّقَ دَمُهُ فِي القبائلِ جميعًا، فَلَمْ يَقْدِرْ بنو عبدِ منافٍ علَى حربِ قومِهِمْ جميعًا، فَرَضُوا مِنَّا بالعَقْلِ فَعَقَلْنَاهُ لَهُمْ.

فقالَ إبليس أخزاهُ اللهُ: القولُ مَا قالَ الرجلُ، هذَا الرأيُّ لَا أرَى غيرَهُ. وتفرَّقَ القومُ علَى ذلكَ وهُمْ مُجْمِعُوْنَ لهُ.

 

فأتَى جبريلُ رسولَ اللهِ ﷺ فقالَ: لَا تَبِتْ هذِهِ الليلةَ علَى فِرَاشِكَ الذي كنتَ تَبِيْتُ عليهِ، وأَخْبَرَهُ بِمَكْرِ القومِ وإِذْنِ اللهِ تعالَى لهُ بالخروجِ. فلمَّا كانتِ العتمةُ مِنَ الليلِ اجتَمَعُوا علَى بابِهِ يرصدُونَهُ متَى ينامُ فَيَثِبُوْنَ عليهِ، فلمَّا رأَى رسولُ اللهِ ﷺ مكانَهُمْ قالَ لعليِّ بنِ أبي طالبٍ: “نَمْ عَلَى فِرَاشِيْ وَتَسَجَّ بِبُرْدِي هَذَا الْحَضْرَمِيِّ الأَخْضَرِ فَنَمْ فِيْهِ فِإِنَّهُ لَنْ يَخْلُصَ إِلَيْكَ شَىءٌ تَكْرَهُهُ مِنْهُمْ” وكانَ رسولُ اللهِ ﷺ ينامُ فِي بردِهِ ذلكَ إذَا نامَ،

فلمَّا اجتمَعُوا قالَ أبو جهلٍ بنُ هشامٍ: (إنَّ محمدًا يزعمُ أنَّكُمْ إنْ تابَعْتُمُوهُ علَى أَمْرِهِ كُنْتُمْ ملوكَ العربِ والعجمِ ثمَّ بُعِثْتُمْ مِنْ بعدِ موتِكُمْ، فَجُعِلَتْ لكُمْ جِنَانٌ كجِنَانِ الأردنِّ وإنْ أنتُمْ لمْ تفعَلُوا كانَ فيكُمْ ذبحٌ، ثمَّ بُعِثْتُمْ مِنْ بعدِ موتِكُمْ فَجُعِلَتْ لَكُمْ نارٌ تُحْرَقُوْنَ فيهَا)

فَخَرَجَ عليهِمْ رسولُ اللهِ ﷺ فَأَخَذَ حَفْنَةً مِنْ ترابٍ فِي يدِهِ ثمَّ قالَ: “نَعَمْ أَنَا أَقُوْلُ ذَلِكَ وَأَنْتَ أَحَدُهُمْ” وأخذَ اللهُ عزَّ وجلَّ عَلَى أبصارِهِمْ عنهُ فلَا يَرَوْنَهُ فجعلَ يَذْرِيْ ذلكَ الترابَ على رؤوسِهِمْ وهوَ يتلو هذهِ الآياتِ:

﴿يس (1) وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (4) تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)﴾.

فلمْ يَبْقَ منهُمْ رجلٌ إلَّا وقدْ وَضَعَ رسولُ اللهِ ﷺ علَى رأسِهِ ترابًا، ثمَّ انصَرَفَ إلَى حيثُ أرادَ أنْ يَذْهَبَ. فأتَاهُمْ ءاتٍ مِمَّنْ لمْ يكنْ معهُمْ فقالَ: مَا تنتظرونَ هَهُنَا؟ قالوا: محمدًا. قالَ: خَيَّبكُمُ اللهُ، قدْ واللهِ خَرَجَ عليكمْ محمدٌ ثمَّ مَا تركَ منكُمْ رجلًا إلَّا وقدْ وضعَ علَى رأسِهِ ترابًا وانطلقَ لحاجَتِهِ أفمَا ترونَ مَا بكم؟!

فوضعَ كلُّ رجلٍ منهُمْ يَدَهُ علَى رأسِهِ فإذَا عليهِ ترابٌ، ثمَّ جعلُوا يَتَطَلَّعُونَ فَيَرَوْنَ عليًّا علَى الفراشِ متسجِّيًا بِبُرْدِ رسولِ اللهِ ﷺ، فيقولونَ: واللهِ إنَّ هذَا لِمُحَمَّدٍ. فَلَمْ يزالوا كذلكَ حتَّى أصبحوا. فقامَ عليٌّ رضيَ اللهُ عنهُ مِنَ الفراشِ، فقالوا: واللهِ لقدْ صَدَقَنَا الذي كانَ حَدَّثَنَاهُ.

وَفِي ذلكَ يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ فِي سورةِ الأنفالِ: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾

فأمَّا المكرُ مِنَ الخلقِ فهوَ خبثٌ وخداعٌ لإيصالِ الضررِ إلَى الغيرِ باستعمالِ حيلةٍ وأمَّا مِنَ اللهِ فهوَ غيرُ ذلكَ، إنَّمَا هوَ مجازاةُ الكافرينَ بالعقوبةِ مِنْ حيثُ لَا يدرونَ، وبعبارةٍ أخرَى: إنَّ اللهَ أقوَى فِي إيصالِ الضررِ إلَى الماكرينَ مِنْ كلِّ ماكرٍ جزاءً لَهُم علَى مكرِهِمْ،

أمَّا المكرُ بمعنى الاحتيالِ فهوَ مستحيلٌ علَى اللهِ، قالَ القرطبيُّ فِي تفسِيرِهِ: والمكرُ مِنَ اللهِ هوَ جزاؤُهُمْ بالعذابِ علَى مكرِهِمْ مِنْ حيثُ لَا يشعرونَ. فالمكر بمعنى الاحتيال مستحيل على الله لأن الله منزه عن صفات النقصان.

 

ولما جاء رسول الله ﷺ بيت أبي بكر قال له: “أذن لنا” أي بالهجرة، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله بأبي أنت وأمي، فقال له: “نعم الصحبة” فقال أبو بكر: عندي ناقتان أعطيك إحداهما، فقال له عليه السلام: “بالثمن”

فَلَمَّا قَرَّبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الرَّاحِلَتَيْنِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَدَّمَ لَهُ أَفَضْلَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: ارْكَبْ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:  إنِّي لَا أَرْكَبُ بَعِيرًا لَيْسَ لِي” قَالَ: فَهِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. قَالَ: ” لَا، وَلَكِنْ مَا الثَّمَنُ الَّذِي ابْتَعْتهَا بِهِ ؟” قَالَ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: “قَدْ أَخَذْتُهَا بِهِ” قَالَ: هِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَرَكِبَا وَانْطَلَقَا.

 

ثم انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ إلَى الْغَارِ لَيْلًا أي غار ثور، فقال أبو بكر: “يا رسول الله أدخل قبلك، فإن كان حية أو شئ كان لي دونك” فَدَخَلَ رضي الله عنه وصار يتفقد الثقوب التي في الْغَارَ لِيَنْظُرَ أَفِيهِ سَبُعٌ أَوْ حَيَّةٌ أو عقرب،

كلما وجد جحرًا أخذ بثوبه فشقه ثم ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بثوبه أجمع إلا ما يستر به عورته، فبقي جحر فوضع عقبه عليه ثم أدخل رسول الله ﷺ، وأراد عليه السلام أن يرتاح فوضع رأسه الذكي الطيب الطاهر المبارك على فَخِذ أبي بكر ونام عليه السلام،

فكان الثعبان في ذاك الجحر الذي سده أبو بكر برجله فلدغه، وصار الثعبان يلسع الصديق في عقِبِه وهو لا يرفعُ عَقِبَهُ لئلا يتأذى الرسول عملا بقوله تعالى ﴿النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾ ومن شدة الألم دموعُه انهمرت، لكن لم يحرك رجله،

فأفاق عليه السلام ورأى حال الصديق فقال: “فأين ثوبك يا أبا بكر ؟” فأخبره بالذي صنع، فوضع من ريقه الطيب عليه فبرأ على الفور، ورفع النبي يديه وقال: “اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي يوم القيامة” فأوحى الله إليه أنه قد استجاب له .

 

وكان أبو بكر رضي الله عنه جريئا شجاعا، عندما اجتمع الكفار على رسول الله عند الكعبة وهو يصلي وأرادوا ضربه، قال سيدنا علي رضي الله عنه: “لم يفرقهم عن رسول الله ﷺ إلا الصديق”

دخل أبو بكر بينهم ودافع عن الرسول فتركوا الرسول وجعلوا يضربونه حتى صار كالميت، فحُمل إلى بيته وعندما أفاق قدموا له الماء، فقال: لا أشرب حتى أرى رسولَ الله ﷺ، فقالوا له: هو بحمد الله بخير، فبعد أن اطمأن عليه شرِبَ الماء.

وأما قوله تعالى: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ فالمراد بذلك أن حُزنُه رضي الله عنه كان على الرسول وليس على نفسه، هذا هو الصديق، هو الذي أنفق أمواله الطائلة والكثيرة في سبيل الله في نشر الإسلام، في شراء العبيد والأرقاء الذين أسلموا ليُعتقهم.

 

وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار، وجاءت العنكبوت ونسجت على بابه، والحمامة باضت ورقدت، فلما وصل رجال من المشركين إلى الغار وكانوا منه على أربعين ذراعا، تعجل بعضهم ينظر في الغار فلم ير إلا حمامتين وحشيتين بفم الغار ونسيج عنكبوت،

فرجع إلى أصحابه فقالوا له مالك ؟ فقال: رأيت حمامتين وحشيتين ونسيج عنكبوت فعرفت أن ليس فيه أحد، فسمع النبي ﷺ ما قال فعرف أن الله قد درأ عنه، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى تحت قدميه لأبصرنا، فقال له عليه السلام: “يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما” أي أن الله عالم بهما وحافظ لهما أي عناية الله معهما.

فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الْغَارِ ثَلَاثًا وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ فِيهِ حَيْنَ فَقَدُوهُ مِائَةَ نَاقَةٍ لِمَنْ يَرُدُّهُ عَلَيْهِمْ، وَكَانَتْ أَسَمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ تَأْتِيهِمَا مِنْ الطَّعَامِ إذَا أَمْسَتْ بِمَا يُصْلِحُهُمَا، كانت تأتيهما بِسُفْرَتِهِمَا وَنَسِيَتْ أَنْ تَجْعَلَ لَهَا عِصَامًا، فَلَمَّا ارْتَحَلَا ذَهَبَتْ لِتُعَلِّقَ السُّفْرَةَ فَإِذَا لَيْسَ لَهَا عِصَامٌ فَحلَّت نِطَاقَهَا فَجعَلتهُ عِصَامًا ثُمَّ عَلَّقَتْهَا بِه،

وذلك سَبَبُ تَسْمِيَةِ أَسْمَاءَ بِذَاتِ النِّطَاقِ، فَكَانَ يُقَالُ لِأَسْمَاءِ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ ذَاتُ النِّطَاقِ لِذَلِكَ، أو ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ لأَنَّهَا لَمَّا أَرَادَتْ أَنْ تُعَلِّقَ السُّفْرَةَ شَقَّتْ نِطَاقَهَا بِاثْنَيْنِ فَعَلَّقَتْ السُّفْرَةَ بِوَاحِدٍ وَانْتَطَقَتْ بِالْآخَرِ. يقال انتطق الشّخص: أي شدَّ وسَطَه بحزام. ويُسمَّى نطاقًا.

 

 ثم تابع ﷺ المسير ميمما نحو يثرب، فلحق بهما سراقة بن مالك طمعًا بالمال المرصود، لأن قريشًا جعلت لمن رده إليهم مائة ناقة وكان ذا قوة وتمكن باقتفاء الأثر. فرءاه أبو بكر وكان أبو بكر يمشي تارةً أمام النبي ﷺ ثم يمشي خلفه ثم يتحول إلى الأمام ثم إلى اليمين ثم إلى اليسار، وذلك من شدة خوفه على رسول الله، حماية لرسول الله ﷺ.

فقال أبو بكر: يا رسول الله إن هذا الطلب قد لحقنا. فقال عليه السلام: “لا تحزن إن الله معنا” قال أبو بكر: حتى إذا دنا منا وكان بيننا وبينه قيد رمح أو رمحين أو ثلاثة قلت يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا وبكيت،

فقال له عليه السلام: “لماذا تبكي” فقال: أما والله ما على نفسي أبكي ولكن أبكي عليك. فدعا رسول الله ﷺ على سراقة فقال: “اللهم اكفناه بما شئت” فساخت قوائم فرسه إلى بطنها في أرض صلد،

فوثب عنها سراقة وقال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن ينجني مما أنا فيه فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب، فدعا له ﷺ ووعده بسواري كسرى، فانطلق سراقة ورجع وأعمى على القوم.

 

وتابع النبي ﷺ رحلته مع صاحبه وسلكا طريق الساحل حتى وصلا إلى يثرب، إلى طيبة إلى طابة التي طابت برسول الله ﷺ، واستغرقت رحلتهما من مكة إلى المدينة نحو اثنا عشر يومًا،

وكان أهل المدينة يخرجون كل يوم لينظروا هل وصل رسول الله أم لا، فلما كان اليوم الذي وصل فيه النبي إلى المدينة رأوه من بعيد، فاستقبلوه شيبا وشبابا أطفالا ونساءً عند ثنية الوداع فرحين مستبشرين بقدوم النبي محمد طه الأمين.

وكان أهل المدينة يقولون: لَمَّا سَمِعْنَا بِمَخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ مَكَّةَ كُنَّا نَخْرُجُ إذَا صَلَّيْنَا الصُّبْحَ إلَى ظَاهِرِ حَرَّتِنَا نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَوَاَللَّهِ مَا نَبْرَحُ حَتَّى تَغْلِبَنَا الشَّمْسُ عَلَى الظِّلَالِ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ ظِلًّا دَخَلْنَا، وَذَلِكَ فِي أَيَّامٍ حَارَّةٍ،

حَتَّى إذَا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي قَدِمَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فخَرَجْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مِثْلِ سِنِّهِ، وَأَكْثَرُنَا لَمْ يَكُنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ ذَلِكَ، وَرَكِبَهُ النَّاسُ وَمَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، حَتَّى زَالَ الظِّلُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَأَظَلَّهُ بِرِدَائِهِ فَعَرَفْنَاهُ عِنْدَ ذَلِكَ. وأنشدوا قائلين:

طلعَ البدرُ علينا من ثَنيــــــــــــــــاتِ الوداع     وجبَ الشـــــــــــــــــــكر علينا ما دعا لله داع

أيها المبعوثُ فينا جئتَ بالأمر المطاع     جئت شرَّفتَ المدينة مرحبا يا خير داع

 

وليعلم أن هجرة رسول الله ﷺ لم تكن هربا من المشركين ولا يأسًا من واقع الحال، فلا يجوز أن يقال عن رسول الله إنه هرب لأن هذه الكلمة تشعر بالجبن، ورسول الله ﷺ أشجع البشر، وكذلك لم تكن هجرته حبًا في الشهرة والجاه والمال والسلطان، فقد ذهب إليه عليه السلام أشراف مكة وسادتها فقالوا له: إن كنت تريد ملكا ملكناك إياه،

ولكن النبي الأعظم ﷺ أشرف وأسمى من أن تكون مقصوده الدنيا، وكذلك لم تكن هجرته التماسا للهدوء وطلبا للراحة، فهو يعلم يقينا أنها دعوة حق ورسالة هدى لا بد أن يأديها كما أمره الله، وقد قال عليه السلام لعمه أبي طالب حين أتاه يطلب منه أن يكف عن التعرض لقومه وما يعبدون: “والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه”

 

نسأل الله تعالى أن ينفعنا ببركة هذه الذكرى العطرة المباركة إنه على كل شئ قدير وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحابته الطيبين الطاهرين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

مواقيت صلوات اليوم

    عمان, الأردن
    الصلاةالوقت
    الفجر2:59 AM
    شروق الشمس4:41 AM
    الظهر11:33 AM
    العصر3:13 PM
    المغرب6:25 PM
    العشاء7:55 PM

إن المعرفة الحقيقية لدخول أوقات الصلاة تقوم على المراقبة، أما ما نذكره هنا فمن باب الاستئناس

إن أوقات الصلاة الظاهرة هي فقط لمدينة عمان، الأردن

قنوات التواصل الاجتماعي