أما بعد: يقول الله تعالى في محكمِ كِتابِه: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِها وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعًا بَصِيرًا(58)} سورة النساء. فالآيَةُ وَإِنْ كَانَ نزولُهَا فِي مِفْتَاحِ الكَعْبَةِ فَهِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الأَمانَاتِ.

معنى الأمانة

فالأَمَانَةُ تُطْلَقُ عَلَى مَا يَسْتَأْمِنُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ نَحْوِ الوَدَائِعِ، فَالمؤمِنُ الكامِلُ إِذَا اؤْتُمِنَ عَلَى شَىْءٍ لا يَخُونُ بل يُحَافِظُ علَى الأَمانَةِ،

تشمل الأمانة

وَتَشْمَلُ الأمانَةُ ما يَأْتَمِنُ الرَّجُلُ عليهِ أجيرَهُ مِنَ العَمَلِ وَمَا يَأْتَمِنُ عليهِ الزوجُ زَوْجَتَهُ في بَيْتِهِ بِأَنْ لا تَخُونَه في فِرَاشِه أو مَالِه، قَالَ صلى اللهُ عليه وسلم: “كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِه”.

معنى الخيانة وأنواعها

ومِنْ معاصِي اليَدَيْنِ الخِيانَةُ وَهِيَ ضِدُّ النَّصِيحَةِ فَتَشْمَلُ الأَفْعَالَ وَالأَقْوَالَ وَالأَحْوَالَ.

1. الخِيَانَةُ بالفِعْلِ أَنْ يَأْكُلَ الأَمَانَةَ،
2. وَإذا قالَ لِصَاحِبِ الوَدِيعَةِ لِيسَ لَكَ عندِي شَىْءٌ فهَذِهِ خِيَانَةٌ بِالقَولِ،
3. أما الخيانةُ في الأَحْوَالِ فهي كأَنْ يُظْهِرَ لِلنَّاسِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الأَمَانَةِ وَهُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ.

 خيانة الأمانة من صفات المنافق

وخيانَةُ الأمانَةِ مِنْ صِفَاتِ المنافِقِ في الأَعْمَالِ وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ءاية المنافق ثلاث: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وإِذا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ” وَفِي رِوَايَةٍ “وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ” وهذِهِ الأربَعَةُ منَ النِّفَاقِ في الأَعمالِ التي لا تصل إلَى حَدِّ الكُفْرِ.

النفاق في الايمان

وأما النفاق في الإيمان فهو أن يظهر الشخص الإيمان وهو يعتقد الكفر.

الخيانة في الشرع

والخيانة مذمومة في شرع الله، تنكرها الفطرة، وترفضها الطبيعة السوية، والله تعالى لا يحب الخائنين، لا يحب من كان خوانًا أثيمًا، قال تعالى: “إن الله لا يُحِبُّ الخائنين” سورة الأنفال.

والخائن وإن لم يعرف بخيانته أمام الناس فإنه سوف يُفضح في الآخرة إن مات على حاله، ترفع له راية يوم القيامة أمام الناس زيادة في النكاية به، يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه الشيخان: “لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلانٍ” فكل من كانت ولايته أعم وأشمل ثم خان من تحت ولايته، فلا شك بأن جرم هذا أكبر من جرم من هو أقل منه في الولاية.

وكلما كانت المسئولية أعظم وخان كان الإثم أعظم. والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة الأنفال.

لا إيمان لمن لا أمانة له

فالخيانة من صفات المنافقين، والأمانة من صفات المؤمنين، فاختر أي الطريقين شئت، وتخيّر أي الوصفين تريد،

قال صلى الله عليه وسلم: “لا إِيْمَانَ لِمَنْ لا أمانة لَهُ، وَلا دِيْنَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ” رواه الإمام أحمد. ومعنى “لا إِيْمَانَ لِمَنْ لا أمانة لَهُ، وَلا دِيْنَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ”: أي لا يكون مؤمنًا كاملًا من لم تكن عنده صفة الأمانة، فإِذَا إِنْسانٌ ائْتَمَنَ إِنْسَانًا لا بُدَّ أَنْ يُرَاعِيَ هذا العَهْدَ ولا يُخْلِفَ فِيهِ، وإِذَا عَامَلَ الناس بالبيعِ والشِّراءِ، فلا يَجُوزُ أَنْ يَغُشَّهُمْ، فإذَا باعَهُ شيئًا فيهِ عَيْبٌ يُبَيِّنُ لهُ، وإذَا لَمْ يُبَيِّنْ لهُ وَباعَهُ فحَرَامٌ عَلَيْهِ ويَسْتَحِقُّ العُقُوبَةَ عِنْدَ اللهِ.

ولا صلاح لأمة انتشرت فيها الخيانة، ولا بقاء لمجتمع تفشت فيه الخيانة، ولا كرامة لأناس صارت الخيانة من أعمالهم وسلوكهم.

نماذج عن الخيانة

وخيانة الأمانات كلها حرام، وهذه تشمل ما يتعلق بحقوق كل ذي حق،

• فليحذر الموظف من خيانة الأمانة بتعاطي الرشوة، أو إتعاب أصحاب المعاملات وتأخيرهم بقصد التسلط،
• وليحذر أصحاب المناصب والمراكز من التخوض في المال دون وجه شرعي فإنها خيانة للأمانة، يقول عليه الصلاة والسلام: “إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ” رواه البخاري.
• والمال الذي يجمع باسم أعمال البر والخير من الله الذي يجب المحافظة عليه بالأمانة الشرعية، فوضعه بغير محله وصرفه على غير الوجه الذي دفع لأجله خيانة وأي خيانة،
• وليحذر كل الذين أُسندت إليهم أمور الناس من خيانتهم،
• وليحذر كل راع مسؤول عن رعيته من خيانة ما استؤمن عليه.
• ومن الخيانة أن يفتي من لا علم له في الدين في أمور الحلال والحرام، بل من أشد الخيانة خيانة الأمانة الشرعية، ومن الخيانة أن يُستأمن الرجل على الدين فيتخذه سلمًا للوصول إلى المناصب والأموال. وصدق من قال: الأمانة في الدين أهم من الأمانة في المال.

الأنبياء معصومون من الخيانة

سيدنا يوسف عليه السلام عندما طَلب من ملك مصر أن يجعله على خزائن الأرض، وهو في مصطلحنا المعاصر وزيرًا للمالية، كان يعلم من نفسه أنه ليس بخائن، ولا يمكن أن تخطر الخيانة بفكره أبدًا فهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومن المعلوم أن الله تعالى عصم الأنبياء عليهم السلام من الخيانة، فقال سيدنا يوسف عليه السلام ما قال ربنا في القرءان: {قالَ اجعَلني على خَزَائِنِ الأرضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيم} سورة يوسف.

عجبًا لحال بعض الناس في هذا الزمان

فعجبًا لمن يأكل أموال الناس بالباطل ظلمًا وعدوانًا. وما نسمعه اليوم ونراه من فشو الكذب والخداع والغش والتزوير والسرقة والاختلاس وكثرة شهادة الزور وقول الزور والمطل بالحقوق وانتشار الرشوة وتسلط الخونة على الناس في كثير من المجالات، ومانشهده اليوم من تلميع وتصدير لأناس خونة صاروا يتكلمون باسم الدين على الفضائيات وبين المجتمعات ليغيروا الحقائق ويبدلوا الثوابت من أقبح الخيانات.

والرجل إن أوهم الناس أنه أهلا للتقوى والورع والاستقامة ثم راح يفتي بغير ما أنزل الله ويقول ويفعل القبائح فقد خان وخيانته عظيمة. فالفتاوى الشاذة من الخيانة، كل هذا من أعظم الخيانة للأمانة الشرعية،

حتى أصبح الكثيرون اليوم لا يعبؤون بالأمانة ولا يقيمون لها وزنًا، ترى الصديق يخون صديقه والعامل يخون صاحب العمل والمسؤول يخون من دونه والزوج أحيانًا يخون أهل بيته، والبنت تخون أهلها!! فقد قلت التقوى والأمانة بين الناس واستفحل الغش والخيانة، الأب مؤتمن على أولاده وزوجته، والزوجة كذلك والخطيب مؤتمن على ما يتكلم به لينفع الناس ويرشدهم لا ليزيغهم ويكلمهم بما لا فائدة فيه في وقت هم أمس الحاجة به إلى معرفة أمور الدين والحلال والحرام، والبائع مؤتمن على ما يبيع من غير خيانة وغش.

خطاب الناس على قدر عقولهم

ولذا كانت الوصية بخطاب الناس على قدر عقولهم، وكان لكل مقام مقال ولكل فن رجال. وأكثر ما يحتاجه الناس اليوم التذكير بالأمور الشرعية العقائدية والدروس الإسلامية الصحيحة العلمية النافعة، وأن يبحثوا عن الأمين ليس في البيع والشراء فقط بل في السؤال عن أمور الدين والاتباع في أمور الشرع، فالرجل الأمين في الفتوى الذي شأنه أن يقول في ما لا يعرف لا أدري وأن يكون همه النصيحة بالأمانة الشرعية.

خيانة امرأتا نوح ولوط

وليست الخيانة محصورة بالمعنى المتعارف اليوم بين الزوج والزوجة من علاقة محرمة، فإنها نوع من الخيانة للأمانة، إنما معناها أعم وأشمل، وأما قول الله تعالى عن امرأتي نوح ولوط عليهما السلام: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)} سورة التحريم.

فالمراد بالخيانة هنا الخيانة في الدين، فإنهما لم تتبعاهما في دين الإسلام، بل بقيتا على الكفر والضلال ولم ينفعهما أنهما زوجتا نبيين من أنبياء الله عظيمين وهما نوح ولوط عليهما الصلاة والسلام، وليس المراد بالخيانة هنا الزنى وأنهما كانتا على الفاحشة،

ويروى عن ابن عباس وغيره من أئمة السلف والخلف: “ما بغتْ (أي زنت) امرأة نبي قط”. وقيل: إن اسم امرأة لوط “والهة” واسم امرأة نوح “والغة” روى الحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: “فخانتاهما” قال: “ما زنتا، أما امرأة نوح فكانت تقول للناس إنه مجنون، وأما امرأة لوط فكانت تدل على الضيف فذلك خيانتهما”.

قصة وعبرة

يحكى أنه كان هناك صديقان حميمان بلغا من الثقة المتبادلة لدرجة أن أحدهما أعطى الآخر مفتاح بيته، وذات يوم اتفقا على الخروج في رحلة فمرض الصديق الذي معه المفتاح وأعلم صديقه بالذهاب عنه. فما كان من الآخر إلا أن جاء إلى منزل صديقه وفتح الباب وما إن رأى جمال زوجة صديقه حتى خان وحاول إرغامها على الحرام. وكان هناك كلب فهاجمه وقتله. وحينما رجع الزوج وعرف القصة أنشد:

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحابته الطيبين الطاهرين وسلام على المرسلين وءاخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.