زيد المصري - Zaid Al-Masri

معركة بدر الكبرى (2)

الحمد لله رب العالمين، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد طه الأمين، وعلى ءاله وصحابته الطيبين الطاهرين ومن تبعهم وسار على منوالهم إلى يوم الفصل والدين.

 

أما بعد: فلَمَّا أَتَتْ لِهِجْرَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةٌ وَثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فكانَتِ الغَزْوَةُ لِسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ صَبِيْحَةَ يَوْمِ الجُمُعَةِ،غَزَا غَزْوَةَ بَدْرٍ الكُبْرَى، وَهِيَ البَطْشَةُ الكُبْرَى الَّتِي أَعَزَّ اللهُ بِهَا الإِسْلَامَ وَنَصَرَهُ وَالْمُسْلِمِيْنَ. وَبَدْرٌ بِئْرٌ أَوْ قَرْيَةٌ مَشْهُوْرَةٌ، قِيْلَ: سُمِّيَتْ بِاسْمِ بَدْرِ بنِ يَخْلُدَ بنِ النَّضْرِ بنِ كِنَانَةَ، وَهِيَ عَلَى نَحْوِ أَرْبَعِ مَرَاحِلَ مِنَ الْمَدِيْنَةِ مِنْ طَرِيْقِ مَكَّةَ عَنْ يَمِيْنِهَا. وَكَانَ عَدَدُ الْمَلَائِكَةِ فِي تِلْكَ الْمَعْرَكَةِ خَمْسَةَ ءَالَافٍ، قَالَ تَعَالَى: “إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ ءالَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ (124) بَلَىٰ  إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءالَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)” وَكَانَ الْمُشْرِكُوْنَ يَوْمَئِذٍ بَيْنَ التِّسْعِمائَةٍ وَالأَلْفِ رَجُلٍ.

ثُمَّ الْمُسْلِمُوْنَ حِيْنَ رَأَوُا العَدُوَّ قَلَّلَهُ اللهُ فِي أَعْيُنِهِم تَقْوِيَةً لَهُم وَتَنْشِيْطًا، َقَالَ ابْنُ مَسْعُوْدٍ: “لَقْدَ قُلِّلُوا فِي أَعْيُنِنَا يَوْمَ بَدْرٍ حَتَّى قُلْتُ لِرَجُلٍ جَنْبِيْ: أَتَرَاهُم سَبْعِيْنَ؟ قَالَ أَرَاهُم: مائَةً، فَأَسَرْنَا رَجُلًا مِنْهُم، فَقُلْنَا: كَمْ كُنْتُم؟ قَالَ: (أَلْفًا) فَمَعَ قِلَّةِ عَدَدِ الْمُسْلِمِيْنَ وَكَثْرَةِ العُدَّةِ وَالعَدَدِ فِي الكَافِرِيْنَ نُصِرَ الْمُسْلِمُوْنَ فِي الْمَعْرَكَةِ وَهُم مَنْصُوْرُوْنَ مَعْنًى عَلَى أَيَّةِ حَالٍ، قَالَ تَعَالَى: ” مَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ  وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)” أَيْ نَصَرَكُمُ اللهُ وَأَنْتُم قَلِيْلٌ عَدَدُكُم لِتَعْلَمُوا أَنَّ النَّصْرَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَلَيْسَ بِمُجَرَّدِ كَثْرَةِ العُدَّةِ وَالعَدَدِ.

وَقَدْ وَرَدَ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ العُصْبَةَ لَا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ” مَعْنَاهُ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ مَا كَانَ مُسْلِمٌ غَيْرَ الرَّسُوْلِ وَهَؤُلَاءِ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، فَإِنْ قُتِلَ هَؤُلَاءِ الْمَوْجُوْدُوْنَ هُنَا مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ لَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ بَعْدَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ يَعْبُدُكَ، فَالحَمْدُ للهِ الَّذِي أَعَزَّ الإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِيْنَ.

وَبَعْدَ أَهْلِ بَدْرٍ فِي الفَضْلِ وَالرُّتْبَةِ أَهْلُ أُحدٍ يَلُوْنَ، وَأُحُدٌ جَبَلٌ مَعْرُوْفٌ بِالْمَدِيْنَةِ الْمُنَوَّرَةِ على سَاكِنِهَا عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةُ وَأَتَمُّ التَّسْلِيْمِ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَوَحُّدِهِ وَانْقِطَاعِهِ عَنْ جِبَالٍ أُخَرَ هُنَاكَ، وَقَدَ قَالَ فِيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أُحُدٌ جبَلٌ يحبُّنا ونُحبُّه” وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحُدًا وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ فَرَجَفَ بِهِمْ، فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ وَقَالَ: “اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ” خَلَقَ اللهُ فِي جَبَلِ أُحُدٍ إِدْرَاكًا تِلْكَ السَّاعَةَ لَمَّا اهْتَزَّ مِنْ دُوْنِ الرُّوْحِ، خَلَقَ فِيْهِ الحُبَّ وَالإِدْرَاكَ وَالشُّعُوْرَ بِحُبِّ الرَّسُوْلِ. وَالَّذِي ثَبَتَ أَنَّ جَبَلَ أُحُدٍ يُنْقَلُ إِلَى الجَنَّةِ مِنْ هَذِهِ الأَرْضِ فِيْمَا بَعْدُ، كَمَا أَنَّ الْمَسَاجِدَ الَّتِي بُنِيَتْ مِنْ حَلَالٍ تُنْقَلُ إِلَى الجَنَّةِ.

وكانت خطة المسلمين على ما أشار عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يبدؤوا القتال حتى يحيط بهم الكفار، عندها يظهر الرماة على التلال المحيطة بمكان المعركة ويرمون ظهور الكفار برماحهم، وهكذا كان. واقتتلوا قتالا شديدا وتضاربت السيوف ولمعت الرماح وتطاير الغبار وعلت التكبيرات الصادحة وكان المدد الكبير. فقد أمد الله تعالى جيش النبي صلى الله عليه وسلم بالملائكة الكرام فأتوا على خيولهم يحاربون ويقاتلون يتقدَّمُهم سيدنا جبريل عليه السلام على فرسه (حيزوم) وكان المقاتل المسلم يشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف، وكان هذا من عمل الملائكة عليهم السلام بأمر الله، وفي نهاية المعركة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة من التراب ورمى بها قريشا وقال: “شاهت الوجوه” وقال لأصحابه: “شدوا عليهم”، فكانت هزيمة المشركين وقتل منهم الكثير وأسر الكثير. كان بين قتلى المشركين رأس الكفر أبو جهل لعنه الله، وأمية بن خلف وهو الذي كان يعذب سيدنا بلالا الحبشي رضي الله عنه، وعاد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الأجلاء منتصرين مُعززين، قال تعالى: ” وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ  فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ ءالَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ (124) بَلَىٰ  إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءالَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) ” وكان لهم في غزوة بدر الكبرى عبرة، أن الفئة القليلة قد تغلب الفئة الكثيرة بإذن الله، وشهد رمضان نصرا كبيرا للمسلمين سجله التاريخ بسطور من نور. وروى البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشًا ثم قال: “شاهت الوجوه” ثم نفخهم بها فكانت الهزيمة للكفار. وقُتل الله منهم سبعين من صناديد قريش وأسر سبعين ولم يبق منهم رجل إلا دخل في عينه التراب.

وقاتل عُكَّاشَةُ بنُ مِحْصَنٍ حتى انقطع سيفه فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم جِذلًا من حطب (وهو ما عَظُم من أُصول الشجر المُقَطَّع) وقال له: “قاتل بهذا يا عكَّاشة” فلما أخذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم هزه فعاد في يده سيفًا. وَعُكَّاشَةُ بْنُ مُحْصَنٍ الَّذِي قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “يَدْخُلُ الْجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ أُمَّتِي بغير حساب وجوههم كالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ” فقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. قَالَ: “إنَّكَ مِنْهُمْ” فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ: “سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ”

وعن عبد الرحمن بن عوف قال: “إني لواقف يوم بدر في الصف وإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثةٍ أسنانهما فتمنيت لو كنت أقوى منهما فغمزني أحدهما وقال: هل تعرف أبا جهل ؟ قلت: نعم فما حاجتك ؟ قال: بلغني أنه يسب رسول الله لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجلُ منا، فغمزني الآخر فقال مثلها، فرأيتُ أبا جهل يجول في الناس فقلت: هذا صاحبكما… فابتَدَراه بسيفهما حتى قتلاه ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخبراه وقال كل منهما: أنا قتلته، قال: “هل مسحتما سيفكما؟” قالا: لا. فنظر فيهما فقال: “كلاكما قتلَه” رواه مسلم . ومر ابن مسعود على القتلى فوجد أبا جهل وهو بآخر رمق فوضع رجله على عنقه وكان قد ءاذاه مرة بمكة ثم قال: هل أخزاك الله يا عدو الله، قال: وبم أخزاني لمن يكون الدين؟ قلت: لله ورسوله، ثم قال: إني قاتلك. فقال أبو جهل:  ما أنت بأول عبد قتل سيده أما إن أشد شىء لقيته اليوم قتلك إياي. وفي رواية البخاري: (فلو غيرك كان قتلني)، فاحتز رأسه ثم جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر ابن عقبة أن المصطفى وقف على القتلى فالتمس أبا جهل فلم يجده فاغتم حتى عُرف ذلك في وجهه فقال: “اللهم لا يعجزك فرعونُ هذه الأمة” فسعى له الرجال حتى وجده ابنُ مسعود مصروعًا وأبصر في عنقه ورما في الجلد وغلظةً من الضرب وفي يديه وكتفه مثل ءاثار السياط) فأتى ابن مسعود النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بقتله والذي رأى به فقال النبي صلى الله عليه وسلم : “ذلك ضرب الملائكة”

ويروى أيضا في مقتل رأس الكفر أبي جهل قصة أخرى وهي: أن عَبْد اللهِ بنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ خَرَجَ ذاتَ يَوْمٍ بَعْدَ نُزُولِ سُورَةِ الرّحمٰن عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم لِيُسْمِعَ الكُفّارَ هذه السُّورة. فقالَ صلى الله عليه وسلم لأَصْحابِهِ: “أَيُّكُم يُسْمِعُ هذه السُّورَةَ للْمُشْرِكِين؟” يَتْلُوها عَلَى أَسْماعِ المشْرِكِين؟ فقالَ بنُ مَسْعُودٍ: “أَنا يا رَسُولَ الله” وهذا يَدُلُّ أَيْضًا عَلى جُرءَةٍ وَشَجاعَةٍ فِى قَلبِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، حيثُ إِنّهُ ما كانَ يَهابُ وَلا يَخافُ إِيذاءَ الكُفّار، يَسْعَى لِتَنْفِيذِ أَمْرِ رَسُول الله، فَخَرَجَ بنُ مَسْعُودٍ إِلَى الكعبَة فَإِذا بِالكُفّارِ مُفْتَرِقُونَ حَوْلَ الكَعْبَةِ وَفِيهِم أَبُو جَهْلٍ عَلَيْهِ لَعناتُ اللهِ فَجَعَلَ ابنُ مَسْعُودٍ يَتْلُو سُورَةَ الرحمٰنِ عَلَى مَسامِعِهِم فَأَغْضَبَ هذا الكُفّارَ فقامَ أَبُو جَهْلٍ إِلَى عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ وَوَقَرَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَشَقَّ لَهُ أُذُنَهُ. فَجاءَ بنُ مَسْعُودٍ إِلَى النّبِيِّ يَبْكِي وَجاءَ جِبريلُ عَلَيْهِ السلام يَضحَكُ فقال لِجِبريل: “إِنّ ابنَ مَسْعُودٍ يَبْكِي وأَنْتَ تَضْحَكُ؟” قالَ جِبريلُ عِنْدئِذٍ: “سَتَعْلَمُ لِما أَضْحَكُ” مَعناهُ يَأْتِي وَقْت، تَعْلَمُ لأَيِّ شىئٍ أَضحَكُ مَعَ أَنَّ ابنَ مَسْعُودٍ يَبْكِي وَمَرَّتِ الأَيّامُ وَفِى مَعْرَكَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى، خَرَجَ ابنُ مَسْعُودٍ يُقاتِلُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَتَخَلَّف عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ عَنْ غَزْوَةٍ غَزاها رَسىُولُ الله صلى الله عليه وسلم ابْتِداءً بِغَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى. وفي تِلْكَ المعرَكة قامَ ابنُ مَسْعُودٍ يَنْظُرُ فِى القَتْلَى وَالحَرْجَى فَإِذا بِأِبي جَهْلٍ فِى ءاخِرِ رَمَق وكانَ أَبو جَهْلٍ رَجُلًا جَسِيمًا ضَخْمًا فاتَّقَى ابنُ مَسْعُودٍ عَلَى صَدْرِ أَبِي جَهْل، جَلَسَ عَلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ حَزَّ لَهُ رَأْسَهُ حَتَّى مات، بَعْدَ هذا قَطَعَ لَهُ رَأْسَهُ وَأُذُنَهُ! وَرَبَطَ أُذُنَهُ بِخَيط، ثُمَّ جاءَ بِها إِلَى رَسىُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَجاءَ جِبريلُ عَلَيْهِ السلام يَضحَكُ وَقالَ للرَّسُول: “أُذُنٌ بِأُذُن والرَّاْسُ زِيادَة” يَعْنِى هذه الأُذُن بِتِلْكَ الأُذُن، بِأُذُنِ ابْنِ مَسْعُود التى شَقَّها أَبُو جَهْلٍ وَالرَّأْسُ زِيادَة. فظَهَرَ لِرَسولِ اللهِ فِيما كانَ ضَحِكُ جِبريل.

وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَتْلَى أَنْ يُطْرَحُوا فِي الْقَلِيبِ طُرِحُوا فِيهِ، فوَقَفَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: “يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ، بِئْسَ عَشِيرَةُ النَّبِيِّ كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ، كَذَّبْتُمُونِي وَصَدَّقَنِي النَّاسُ، وَأَخْرَجْتُمُونِي وَءاوَانِي النَّاسُ، وَقَاتَلْتُمُونِي وَنَصَرَنِي النَّاسُ” ثُمَّ قَالَ: “هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا ؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا” فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُكَلِّمُ قَوْمًا مَوْتَى ؟ فَقَالَ لَهُمْ: “لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَا وَعَدَهُمْ رَبُّهُمْ حَقًّا” وفي رواية قالوا: أتنادي قومًا قد جيَّفوا فقال: “ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا” ثم ارتحل عن بدر وجمع الغنيمة ودخل المدينة قبل الأسرى بيوم.

وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ سَبْعُوْنَ، وَأُسِرَ سَبْعُوْنَ، وَمِمَّنْ قُتِلَ فِيْهِم مِنْ صَنَادِيْدِ قُرَيْشٍ: أَبُو جَهْلٍ فِرْعَوْنُ هَذِهِ الأُمَّةِ، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَنْشَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُحَدِّثُنَا عَنْ أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُرِينَا مَصَارِعَ أَهْلِ بَدْرٍ بِالأَمْسِ مِنْ بَدْرٍ (أَيْ قَبْلَ حُصُوْلِ الْمَعْرَكَةِ) يَقُولُ: “هَذَا مَصْرَعُ فُلانٍ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ” قَالَ عُمَرُ: فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا أَخْطَئُوا الْحُدُودَ الَّتِي حَدَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِمْ فَقَالَ: “يَا فُلَانُ ابْنَ فُلَانٍ، وَيَا فُلَانُ ابْنَ فُلانٍ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ حَقًّا، فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي اللَّهُ حَقًّا” فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: كَيْفَ تُكَلِّمُ أَجْسَادًا لا أَرْوَاحَ فِيهَا، فَقَالَ: “مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، غَيْرَ إِنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرُدُّوا شَيْئًا” وثم ألقوا في بئر، ولَمَّا أُلْقُوا فِي البِئْرِ كَانَ هَذَا دَفْنَهُم. وَفِي ذَلِكَ قَالَ حَسَّانُ بنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:

                     يُنَادِيْهِمْ رَسُوْلُ اللَّهِ لَمَّــــــا           قَذَفْنَاهُمْ كَبَاكِبَ فِي القَلِيْبِ

                     أَلَمْ تَجِدُوا كَلَامِيْ كَانَ حَقًّا           وَأَمْرُ اللهِ يَأْخُذُ بِالْقُلُوبِ

                     فَمَا نَطَقُوا وَلَوْ نَطَقُوا لَقَالُوا          صَدَقْتَ وَكُنْتَ ذَا رَأْيٍ مُصِيْبِ

واستشهد من المسلمين ببدر أربعة عشر رجلًا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار رضي الله عنهم جميعًا ونفعنا ببركاتهم وجعلنا الله في شفاعتهم بحق سيد البدريين سيدنا محمد صلى الله عليه وءاله وسلم. وكان النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم أشجع الناس وأقواهم قلبًا وأكثرهم جراءة لملاقاة العدو، فقد روى الإمام أحمد بإسناده عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لمّا كان يوم بدرٍ اتقينا المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أشدّ الناس بأسًا.

فائدة في تربية الأولاد:

حِينَ كانت مَعْرَكَةُ بَدْر وَهِيَ أَوَّلُ مَعْرَكَةٍ أَوَّلُ غَزْوَةٍ غَزاها رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم كانَ عُمُرُ سيدنا عبدِ الله بنِ عُمَر ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَة. تَقَدَّمَ مَعَ جُمْلَةِ صِبْيان لِيُقاتِلَ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بْنُ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَة فَرَدَّهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم شَفَقَةً عَلَيْهِ، لأَنَّهُ بَعْدُ لا يَزالُ دُونَ الخامِسَةَ عَشْرَةَ مِنَ العُمُر. ثُمَّ فِى غَزْوَةِ أُحُد يَعْنى الغَزْوَة التي كانت بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْر بِسَنَة تَقْرِيبًا، كانَ عُمُرُهُ أَرْبَعَ عَشَرَة سَنَة أَيْضًا تَقَدَّمَ مَعَ المسْلِمين لَعَلَّ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم يُجِيزُهُ، يَأْذَنُ لَهُ بِأَنْ يَخْرُجَ لِيُقاتِلَ الكُفّار، فَرَدَّهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم ثانِيَةً حَتّى كانت غَزْوَةُ الخَنْدَق. كانَ عُمُرُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَر وَقْتَ ذاك خَمْسَةَ عَشْرَ سَنَة. يَعْنِى أَتَمَّ خَمْسَةَ عَشْرَ سَنَة فِى غَزْوَةِ الخَنْدَق فَأَجازَهُ الرّسُولُ بِالخُروجِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَمَعَ الرَّسُول لِيُقاتِلَ الكُفّار وَهُوَ ابْنَ خَمْسَةَ عَشْرَ سَنَة. وَلَمْ يَتَخَلَّف عَبْدُ اللهِ بْنِ عُمَر بَعْدَها عَنْ غَزْوَةٍ مَعَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، ما تَخَلَّفَ قَطُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأرْضاه. وَهٰذا يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ ما وَقَرَ فِى قُلُوبِ هؤلاءِ الصّحابَة مُنْذُ الصِّغَر مِنْ أَهَمِّيَّةِ الدِّفاعِ عَنِ الدِّين وَمِنْ أَهَمِّيَّةِ الخُرُوج فِى سَبِيلِ الله لِقَمْعِ شَوْكَةِ الكُفّار، حِرْصًا عَلَى انْتِشارِ الدِّين وَمَحطِ الكُفْرِ وَهٰذا مَقْصِدٌ عَظِيمٌ جِدًا جِدًا جِدًا. الآن إِذا نَظَرَ الواحِدُ مِنّا فِى حالِ كَثِيرِ مِنْ حالِ الصِّبْيان، فِى زَمانِنا، ابْنَ ثَلاثَ عشْرَةَ سَنَة أَوْ ابْنَ أَرْبَعَ عشْرَةَ سَنَة أَوْ ابْنَ خَمْسَ عشْرَةَ سَنَة، وَلَوْ بَلَغ، نَجِدُ أَنَّ بَعْضَهُم اهْتِمامتُهُم غَيرُ اْهتِماماتِ أَمْثالِ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأرْضاه. نَجِدُ أَنَّ مِنْهُم إِنْ لَمْ تُطْعِمْهُ أُمَّهُ لا يَطْعَم، وَإِنْ لَمْ تُهَيِّئ لهُ أُمُّهُ الفِراش، يَكادُ لا يَقومُ إِلّا كُرْهَة إِلَى فِراشِهِ. يَحتاجُ إِلَى مَنْ يَهْتَمَّ لَهُ بِأَدَقِّ تَفاصِيلِ أَكْلِهِ وَنَوْمِهِ وَشُرْبِهِ وَذَهابِهِ إِلَى مَدْرَسَتِهِ إِلَى غَيرِ ذلِك وَهذا بِسَبَبِ الخَلل فِى ترْبِيَةِ كَثِيرٍ مِنَ الأَوْلادِ فِى زَمانِنا. أَمّا أُولِئِك، أَمْثالُ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَر، وَأَمْثالُ سَمُرَةَ بْنُ جُنْدُب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأرْضاه وَرافِعِ بْنُ خَدِيج وَغَيرِهِما مِنَ الصِّغار فِى العمُر، الكِبار فِى القُوَّة واليَقِين. تَرَبَّوْا عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَتَرَبَّوْا بَيْنَ جِبالٍ كَأَمْثالِ أَبِي بَكْرٍ وَكَأَمْثالِ عُمَرَ بنِ الخَطّاب وَكَأَمْثالِ عُثمانَ بْنِ عَفّان وَكَأَمْثالِ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهم جَمِيعًا وَنَفَعَنا بِهِم وَشَتّانَ شَتّان بَيْنَ تَرْبِيَةِ أُناسٍ فِى زَمانِنا وَتَرْبِيَةِ ما ذكَرْنا. لِذلِكَ يَنْبَغِي عَلى الواحِدِ مِنّا أَنْ يَحْرِص أَنْ يَزْرَعَ فِى قَلْبِ وَلَدِهِ التَّعَلُّقَ بِحُبِّ اللهِ وَحُبِّ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَالتَّعَلُّقَ بِخِدْمَةِ دِينِ اللهِ تعالى والدِّفاعِ عَنْهُ وَمِثْلُ هذه القِصّة الذي حَصَلَت مَعَ سيِّدِنا عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَر، حَصَلَت أَيْضًا مَعَ رافِعِ بْنِ خَدِيج وَمعَ سَمُرَةَ بْنُ جُنْدُب رَضِيَ اللهُ عَنْهُما. فِى غَزْوةِ أُحُد، حِينَ تَقَدَّمَ المسلِمُون لِلِقاءِ المشْرِكِين، تَقَدَّمَ فِى جُمْلَةِ مَنْ تَقَدَّمَ رافِعُ بْنِ خَدِيج وَكانَ غُلامًا فِى مُخْتَبَر العُمُر، يَعْنِى لَعَلَّهُ وَقْتها إِمّا بَلغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَة أَوْ قارَبَها. وَتَقَدَّمَ أَيضًا غُلامٌ ءاخَر يُقالُ لَهُ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُب. فالرَّسُولُ رَدَّهُما ما أَجازَهُما للخُرُوجِ لِقِتالِ الكُفّارِ فِى غَزْوةِ أُحُد، شَفَقَةً علَيْهِما. فَكانَ بَعْضُ الصَّحابَةِ حاضِرًا هُناكُم، فقالَ للرَّسُولِ: إِنَّ رافِعَ بْنِ خَدِيج، هذا الغُلام، رامِيٍ، يَعْنِى يُحْسِنُ الرِّمايَة. فَرَضِيَهُ النبيُّ وَقَبِلَهُ للخُروجِ لِمُقاتَلَةِ المشْرِكِين فِى تِلْكَ المَعرَكَة فَرَجَعَ سَمُرَةَ بْنُ جُنْدُب، صَدِيقُ رافِع إِلَى زَوْجِ أُمِّهِ يَبْكِي، يَقُولُ: أَجازَ الرَسُولُ رافِعَ بْنَ خَدِيج وَلَمْ يُجِزْنِي. مَعْناهُ لَمْ يَأْذَن لِي أَنْ أَخْرُجَ لِقِتالِ الكُفّار! رَجَعَ يَبْكِي حُزْنًا أَنَّ الرَّسُولَ رَدَّهُ فِى تِلْكَ الغَزْوَة. ثُمَّ قالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُب لِزَوْجِ أُمِّهِ: “معَ أَنَّنِي أَصْرَعُ رافِعًا” يَعْنِى إِذا تَصارَعْنا أَنا أَصْرَعُهُ ومَعَ ذلِكَ الرّسُولُ أَجازَ رافِعًا وَلَمْ يُجِزْنِي للخُروج. فَبَلَغَ الرّسُولَ ما قالَ سَمُرَة، فَدَعى رافِعًا وَسَمُرَةَ بْنَ جُنْدُب لِلْمُصارَعَة فَتَصارَعا فَصَرَعَ سَمُرَةُ رافِعًا، فَأَجازَهُما الرَّسولُ يَوْمَ ذاك للخُروجِ فِى غَزْوَةِ أُحُد لِقِتالِ الكُفّار مَعَ أَنَّهُما كانا غُلامَيْنِ صَغِيرَيْنِ. شَتّان بيْنَ هذه الحالَة وَبيْنَ حالَةِ الرِّجال، وأَحْيانًا رِجال أَقْوِياء فِى البَدَن، بالِغُون، وَمَع ذلِك لا يَهْتَمُّونَ للدِّفاعِ عَنْ دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلّ وَلا يُبالِونَ فِى ذلِك. نَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُوَفِّقَنا لِرِضاه.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحابته الطيبين الطاهرين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

مواقيت صلوات اليوم

    عمان, الأردن
    الصلاةالوقت
    الفجر3:02 AM
    شروق الشمس4:42 AM
    الظهر11:33 AM
    العصر3:13 PM
    المغرب6:23 PM
    العشاء7:53 PM

إن المعرفة الحقيقية لدخول أوقات الصلاة تقوم على المراقبة، أما ما نذكره هنا فمن باب الاستئناس

إن أوقات الصلاة الظاهرة هي فقط لمدينة عمان، الأردن

قنوات التواصل الاجتماعي