زيد المصري - Zaid Al-Masri

غزوة تبوك 1

الحمدُ لله الذي اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهم الجنّة، وجعل الجهاد في سبيلِهِ باللسان والسِّنان سببا لدخول الجنّة، وأشهدُ أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً بها النفوسُ مطمئنّة، وهي لقائلها من النّار جُنّة، وأشهدُ أنَّ سيدنا وحبيبنا وقائدنا محمدًا عبده ورسوله أفضلُ من رفعَ الفرضَ والسُنّةَ، وشرع المعروف وسنَّه، وصرف في طاعة ربّهِ عُمْرَهُ وسنَّه. الصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله يا من كشفَ الله بك عنا الغُمّة، قد بلّغتَ الرسالةَ وأديتَ الأمانة ونصحتَ الأمّة. الصلاةُ والسلامُ عليك يا سيدي يا رسول الله وعلى صاحبك أبي بكرٍ صاحبِ العزمِ والهمّة، وعلى عُمرَ الذي وصل بتقوى ربِّهِ إلى القمّة، وعلى عثمان الذي نفعَ الله به الأمّة، وعلى عليٍّ الكرار الغوثِ في المـُلِمَّة.

أما بعد:

حدث في مثل هذا اليوم ذكرى عظيمة على قلوبنا، تذكرنا ببسالة رسول الله ﷺ وشجاعته في نشر الحق والدفاع عن دين الله، وتزيدنا يقينا بأننا إن نصرنا الله تعالى ينصرنا الله، إنها غزوة تبوك التي كانت في العاشر من رجب سنة تسع للهجرة، والتي جعل الله تعالى فيها النصر للمسلمين والخذلان للكافرين.

وقد ذكر البيهقي في دلائل النبوة أن رسول الله ﷺ قل ما كان يخرج في غزوة إلا وَوَرَّى، أي أظهر أنه يريد غيرها، والتورية ليس كذبا، وقد عصم الله تعالى الأنبياء من الكذب، بل التورية هي أن تذكر لفظا يحتمل معنيين أحدهما أقرب من الآخر، فتوهم بإرادة المعنى القريب وأنت تريد البعيد.

وقد قال ﷺ: “الحربُ خِدعة” رواه البخاري ومسلم. غير أنه في غزوة تبوك قال: “أيها الناس إني أريد الروم” وذلك كان في زمان من البأس وشدة من الحر وجدب من البلاد،

فقال رجال من المنافقين: لا تنفروا في الحر! فأنزل الله تعالى قوله: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)﴾ سورة التوبة.

وَجَدَّ رسول الله ﷺ في سفره وأمر الناس بالجهاز، وحض أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا، وأنفق عثمان بن عفان رضي الله عنه نفقة عظيمة لم يُنفق أحد أعظم منها،

وذلك حينما جهز جيش العسرة، فقال رسول الله ﷺ: “ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم، ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم” قالها مرتين ثم دعا له فقال: “اللهم اغفر لعثمان ما أقبل وما أدبر وما أخفى وما أعلن وما أسر وما أجهر” .

وذكر البيهقي أن رجالا من المسلمين أَتَوا رسول الله ﷺ وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم، فاستحملوا رسول الله ﷺ، أي أرادوا أن يحملهم معه على الإبل والخيل والبغال حتى يقاتلوا في سبيل الله،

ولم يكن عند رسول الله ما يحملهم عليه، وكانوا أهل حاجة، أي فقراء لا يستطيعون أن يشتروا ما يركبونه، فقال لهم رسول الله ﷺ: “لا أجد ما أحملكم عليه” فحزنوا حزنا شديدا وتولَّوا وأعينهم تفيض من الدمع لعجزهم عن القتال مع رسول الله ﷺ،

فأنزل الله تعالى قوله: ﴿لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (91)

وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)﴾ سورة التوبة.

وعنْ سهل بن حُنَيْفٍ رضي الله عنه أنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ قَالَ: “مَنْ سأَلَ اللَّه تَعَالَى الشَّهَادةَ بِصِدْقٍ بلَّغهُ اللهُ منَازِلَ الشُّهَداءِ وإنْ ماتَ على فِراشِهِ” رواه مسلم.

وفي رواية عند الترمذي قال: ” من سأل الله الشهادة من قلبه صادقًا بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه” أي من عقد قلبه على طلب الشهادة ولم تكتب له الشهادة يكون له أجر شهيد بِنِيَّتِه، لأن النيةَ لها اعتبار كبير عند الله.

وكذا لو تمنى أن يكون له مال كثير من حلال ليصرفه في وجوه البر، فإنه يكتب له ثواب من صرف أموالًا كثيرة في سبيل الله بهذه النية إن كانت نيته جازمة.

وخرج رسول الله ﷺ يوم الخميس وكان يحب أن يخرج يوم الخميس، واستخلف على المدينة محمد بن سلمة الأنصاري، وضرب عسكره على ثنية الوداع ومعه زيادة على ثلاثين ألفا من الناس، وخلف عليه السلام علي بن أبي طالب على أهله وأمره بالإقامة فيهم،

فأرجف المنافقون وقالوا: ما خلَّفه رسول الله إلا استثقالًا له وتخففا! فأخذ علي سلاحه ثم أتى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، زعم المنافقون أنك إنما خلفتني لأنك استثقلتني وتخففت مني!

فقال ﷺ: ” كذبوا ولكني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، ألا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي” رواه الحاكم.

فرجع رضي الله عنه إلى المدينة، ومضى رسول الله ﷺ لسفره، وتخلف المنافقون وحدَّثوا أنفسهم أن رسول الله لن يرجع إليهم، وتخلف رجال من المسلمين بأمر كان لهم فيه عذر، منهم المعسر ومنهم السقيم،

وتخلف أبو خيثمة وهو صحابي من الأنصار، فدخل بستانه والنخل مدللة بثمرها، وامرأته مختضبة متزينة له،

فنظر إليها وقال: هلكتُ ورب الكعبة لئن لم يدركني الله بتوبة، أصبحت في ظلال النخل ورسول الله ﷺ في الحر، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

فقام وخرج على الفور يبتغي وجه الله والدار الآخرة، وتزود بتمرات وماء وأعد سلاحه وانطلق، فنادته زوجته وهو يرتحل: يا أبا خيثمة هلمَّ إلي أكلمك، فقال: والذي نفسي بيده لا ألتفت إلى أهلي ولا مالي حتى ءاتي رسول الله ليستغفر لي.

فلما كان في الطريق رأى رسول الله ﷺ رجلا مبيضًّا أي لابسا البياض يزول به السراب، فقال ﷺ: “كن أبا خيثمة” فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري،

فلما صار بين يدي النبيِّ ﷺ قال: كِدت يا نبي الله أن أهلك بتخلفي عنك، وتزينت لي الدنيا وتزين لي مالي في عيني وكدت أن أختاره على الجهاد، فعزم الله علي بالخروج. فاستغفر له ﷺ ودعا له بالبركة.

وروى البيهقي عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب أنه قال في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ قال: “خرجوا في غزوة تبوك الرجل والرجلان والثلاثة على بعير، و

خرجوا في حر شديد فأصابهم يوما عطشا حتى جعلوا ينحرون إبلهم ليعصروا أكراشها ويشربوا ماءها، فكان ذلك عسرة من الماء وعسرة من النفقة”

قال تعالى: ﴿لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (117)﴾ سورة التوبة.

وروى مسلم أنه لما كان يوم تبوك أصاب الناس مجاعة فقالوا: يا رسول الله، لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا؟ فقال لهم ﷺ: “افعلوا”

فقال سيدنا عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، إن فعلت ذلك قل الظَّهر (أي الركوب) ولكن ادعهم بفضل أزوادهم ثم ادع لهم بالبركة، لعل الله أن يجعل في ذلك البركة.

فقال ﷺ: “نعم” فدعا بنطح فبسطه ثم دعا بفضل أزوادهم، ثم دعا ﷺ بالبركة ثم قال: “خذوا في أوعيتكم” فأخذوا غي أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملأوه، فأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة،

فقال رسول الله ﷺ: “أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله تعالى بهما عبد غيرَ شاك فيحجبُ عن الجنة” وفي رواية قال: “إلا دخل الجنة” .

وروى مسلم عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: “أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأعطيت الشفاعة (أي الشفاعة الكبرى) وأُحِلَّت لي الغنائم ولم تحل لأحد غيري، وكان النبيُّ يبعث للناس خاصة وبعثت للناس عامة”.

ومعنى قوله ﷺ: “نصرت بالرعب مسيرة شهر” أي في غزوة تبوك. وقد جعل الله تعالى النصر لنبيه المصطفى ﷺ بالرعب من غير قتال، فإن الروم لما بلغهم أن رسول الله قد خرج لقتالهم مع جيشه انهزموا واستسلموا من الرعب، وهذا لم يحصل إلا لرسول الله ﷺ فقال: “نصرت بالرعب مسيرة شهر” .

ويستفاد من قصة غزوة تبوك أننا إن نصرنا الله ينصرنا الله، وذلك بأن نكون طالبين للآخرة زاهدين بالدنيا، فإن رسول الله ﷺ خرج في حر شديد، فقدَّمَ نَشرَ الإسلام والدفاع عن دين الله عن الراحة في الدنيا.

والذي يبحث عن الراحة في الدنيا كالذي يبحث عن السراب، فالدنيا دار نكد والآخرة دار سرور، فعلينا أن نجتهد في نصرة الدين، لا أن نتوانى عن فعل الخيرات،

كقول بعض ضعاف النفوس (غيرنا يسد) فإن النبي ﷺ خرج معه إلى غزوة تبوك أكثر من ثلاثين ألفا من المسلمين، وتخلف عنه من المسلمين بلا عذر ثلاثة، وهم: كعب بن مالك، ومُرارة بن الربيع العَمْري، وهلال بن أمية الواقفي،

فمنع النبي ﷺ الناس أن يكلموهم فاعْتزلوهم واستمر ذلك خمسين ليلة حتى نزل حكم الله فيهم. وسنتكلم إن شاء الله عن قصتهم في الحلقة القادمة، سائلين المولى عز وجل أن يرزقنا الاعتبار إنه على كل شىء قدير.

 وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحابته الطيبين الطاهرين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

مواقيت صلوات اليوم

    عمان, الأردن
    الصلاةالوقت
    الفجر3:15 AM
    شروق الشمس4:52 AM
    الظهر11:34 AM
    العصر3:13 PM
    المغرب6:15 PM
    العشاء7:42 PM

إن المعرفة الحقيقية لدخول أوقات الصلاة تقوم على المراقبة، أما ما نذكره هنا فمن باب الاستئناس

إن أوقات الصلاة الظاهرة هي فقط لمدينة عمان، الأردن

قنوات التواصل الاجتماعي