زيد المصري - Zaid Al-Masri

نبي الله المسيح عيسى ابن مريم (٣)

الحمدُ لله العليّ العظيمِ، الملكِ الحقِ القويّ المتين، ذي الجلالِ والإكرام الرحمن الرحيم، الذي قضى فأسقمَ الصحيح وعافى السقيم، وقدّر فأعان َالضعيف وأوهى القويم، قَسَمَ عبادهُ قسمينِ طائعٌ وأثيم، وجعل مآلَهُم إلى دارينِ دار النعيم و دار الجحيم، فمنهم من عصَمَهُ من الخطايا ومنهم من قضى له أن يبقى على الذنوب ويقيم، ومنهم من يتردَّدُ بين الأمرينِ والأعمال بالخواتيم، أحمدُهُ تعالى بأن أنعم علينا بالفضل الوافر العميم، وهدانا بمَنِّهِ إلى الصراط المستقيم، وحذرنا بلطفه من العذاب الأليم، فهو مُستَحِقُّ الحمد ومُستَوجِبُ التعظيم، أحمدُهُ وكيف لا يُحمد، وأشهد أنه لم يلد ولم يولد، وأنَّ محمدًا عبده الأمجد، وأقام عيسى يقول: ” ومُبشرًا برسولٍ يأتي مِن بعدي اسمُهُ أحمَد ” سورة الصف، اللهم صلِّ صلاة كاملة وسلم سلامًا تامّا على سيدنا محمدٍ الذي تنحَلُّ به العُقد وتنفرجُ به الكُرَب وتقضى به الحوائج وتُنالُ به الرغائبُ وحسنُ الخواتيم ويستسقى الغَمامُ بوجهِهِ الكريم وعلى ءالهِ وصحبه وسَلِّم.

أما بعد:

الشهادة المخصوصة لدخول الجنة

أذكر لكم فائدة عظيمة أخبر عنها الحبيب المصطفى والنبي المرتضى محمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وابن أمته وكلمتُهُ ألقاها إلى مريم وروح منه وأنَّ الجنةَ حق وأنَّ النارَ حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل هذا الحديث اتفق على إخراجه البخاري ومسلم في كتابيهما المعروفين بين الأمة الإسلامية،

ومعناه يتضمن أن الإنسان إذا مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله وتجنب عبادة غيره، وأن محمدًا عبده ورسوله،

ويشهد أن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، أي أن المسيح عيسى بشارة الله لمريم لما بشرتها به الملائكة بأمر الله قبل أن تحمل به،

وروح منه، أي أن روح عيسى المسيح عليه السلام روح صادرة من الله خلقًا وتكوينًا، أي روحه روح مشرف كريم عند الله، وإلا فجميع الأرواح صادرة من الله تكوينًا أي الله خالقها، لا فرق في ذلك بين روح وروح، وإنما خص الله تعالى روح عيسى بالذكر تشريفًا، فكلمة وروح منه ليس معناها أن المسيح عيسى جزء من الله والعياذ بالله، فقد ذم الله الكفار بقوله: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ (15)} سورة الزخرف، 

والله تعالى ليس روحًا ولا جسمًا لا يحل في شئ ولا ينحل من شئ ولا ينحل منه شئ، لا يشبه شيئًا ولا يشبهه شئ، بل هو الحي القيوم الذي ليس كمثله شئ، وأنى يشبه الخَالق مخلوقه والمَقدور مُقدِرَه والمُصَوَر مُصَوِرَه، فمعنى وروح منه أي روح وجدت بإيجاد الله لها، أي الله أوجدها من العدم،

وقد روي أن ملِكًا من ملوك النصارى ادعى أن روح عيسى جزء من الله محتجًا بآية من القرءان وهي قوله تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ(171)} سورة النساء، فرد عليه القاضي أبو بكر الباقلاني رضي الله عنه بقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(13)} سورة الجاثية، فسكت ذلك الملك لأن كلمة (منه) في النصين موجودة، فكما أنها لا تدل في الآية الثانية على أن ما في السماوات وما في الأرض جزء من الله، كذلك لا تدل كلمة (منه) في ءاية: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} على أن روح عيسى جزء من الله، ومعنى قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي أن الله تعالى سخر لبني ءادم ما في السماوات وما في الأرض، جميعًا منه أي من خلقه سبحانه وتعالى فهو الذي أوجد كل الموجودات فأبرزها من العدم إلى الوجود،

فالملائكة مسخرون لبني ءادم بحفظهم والدعاء لهم، وكإنزال المطر وإرسال الرياح التي ينتفعون بها، وغير ذلك مما سخر الله لبني ءادم، وقد قال تعالى بعد ذكر قصة سيدنا عيسى عليه السلام وما كان من أمره في سورة ءال عمران: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ(58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ(60)} ،

وقال تعالى: {إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلَّا اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ(63)} سورة ءال عمران.

ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: وأنَّ الجنةَ حق وأنَّ النارَ حق أي أنهما موجودتان الآن وأنهما باقيتان لن تفنيا، وأنهما دارا جزاء، فالجنة دار جزاء للمؤمنين والنار دار جزاء للكافرين،

وقد قال العلماء في شرح هذا الحديث أن من داوم على ذكر هذا الحديث كل يوم مرة وفق للعمل الصالح، وقول الجمهور أنه يدخل الجنة من غير سابق عذاب بإذن الله والله الموفق.

دعوة سيدنا عيسى عليه السلام

وقد أرسل الله تبارك وتعالى نبيه عيسى المسيح إلى بني إسرائيل يدعوهم لدين الإسلام، وعلّمه التوراة وأنزل عليه كتابًا سماويًا وهو الإنجيل الذي فيه:

  • دعوة إلى الإيمان بالله الواحد الأحد،
  • وفيه دعوة إلى الإيمان بأن عيسى عبد الله ورسوله،
  • وفيه بيان أحكام شريعته،
  • وفيه البشارة بنبيّ ءاخر الزمان وهو سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم،
  • وفيه أيضًا تحريم الربا وكل ضار للعقل أو البدن وأكل لحم الخنزير،
  • وفيه الأمر بالصلاة والصيام وغير ذلك من أمور الدّين،

وكان أصل دعوته شيئين: إفرادُ الله بالعبادة، والإيمان به أنه نبيّه، ولم يسم نفسه ابنًا لله ولا سمى الله أبًا له، وإنما المذاهب الثلاثة التي هي أصول اختلاف النصارى في عيسى عليه السلام هي من تأليف بولس، وكانت أوّل كلمة أنطقه الله تعالى بها وهو في المهد: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ}، حيث اعترف بالعبوديّة لله تعالى وحده.

وقد حذّر عيسى المسيح عليه السلام قومَه بني إسرائيل من الكفر والإشراك وبيّن لهم أنه من يشرك بالله تعالى فقد حرّم الله تعالى عليه الجنّة ومأواه نار جهنّم خالدًا فيها أبدًا {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (72) لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ  وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)} سورة المائدة.

المسيح وبني اسرائيل

وكان أتباعُ عيسى المسيح عليه السلام الذين صدّقوه واتبعوه وءامنوا به مسلمين مؤمنين، وكان من أتباعه وتلامذته وصفوته وخاصته (الحواريون) الذين كان أعوانًا له ينشرون دعوته وشرعه ويعلّمون الناس الخير وتعاليم الشرع الحنيف، يقول الله تعالى:{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ ءامِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ ءامَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ(111)} سورة المائدة، وإنما طلبوا شهادة عيسى ابن مريم عليه السلام بإسلامهم تأكيدًا على إيمانهم، لأن الرسل والأنبياء يشهدون يوم القيامة لقومهم وعليهم، وفي هذا دليل أيضًا على أن الإسلام والإيمان متلازمان.

يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ(6)} سورة الصف.

وقال الله عز وجل في بيان الكتاب الذي أنزله على نبيه عيسى ابن مريم عليهما السلام: {وَقَفَّيْنَا عَلَى ءاثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَءاتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ(46)} سورة المائدة.

الكتب السماوية نزلت في شهر رمضان

ورويَ أن التوراة أنزلت على موسى لست ليال خلَوْن من شهر رمضان،

وأنزل الزبور على داود لاثنتي عشرة ليلة خَلًت من شهر رمضان، وذلك بعد التوراة بأربعمائة واثنتين وثمانين سنة،

وأنزل الأنجيل على عيسى لثماني عشرة ليلة خَلَت من شهر رمضان بعد الزبور بألف وخمسين عامًا،

وأنزل الفرقان على محمّد صلّى الله عليه وسلّم لأربع وعشرين من شهر رمضان.

أمّة عيسى عليه السلام الصادقون (الرهبانيّة)

وقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ ءامَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ(14)} سورة الصف. أولئك أمّة عيسى عليه السلام الصادقون الذين كانوا على هدي نبيّهم عيسى عليه السلام وعلى طريقته وتعاليمه حتى بعد رفعه إلى السماء إلى مائتي سنة تقريبًا،

ثم بعد ذلك صار عدد من المؤمنين منهم ينقصُ شيئًا فشيئًا وصار يكثر الذي يعبدون عيسى عليه السلام ويحرّفون ما جاء به من تعاليم الدين الصحيح.

أما الرهبانيّة التي ابتدعها أتباع المسيح عليه الصلاة والسلام ومدحهم الله عليها بقوله: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ(27)} سورة الحديد. فهي الرهبانية هي الانقطاع عن الشهوات، حتى أنهم انقطعوا عن الزواج رغبة في تجرّدهم لعبادة خالقهم،

فقوله تعالى: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ} أي نحن ما فرضناها عليهم إنما هم أرادوا التقرّب إلى الله تعالى، فالله تعالى مدح هؤلاء الصادقين من أتباع عيسى عليه السلام على ما ابتدعوا مما لم يُنَصَّ لهم عليه في الإنجيل الذي أُنزل على نبيّهم عيسى عليه السلام، ولا قال لهم المسيح عليه السلام افعلوا هذه الرهبانيّة وإنما هم أرادوا المبالغة في طاعة الله تعالى والتجرّد لعبادة الله بتركِ الانشغال بالزواج،

لذلك كانوا يبنون الصوامعَ وهي البيوت الخفيفة من طين أو من غير ذلك على المواضع المنعزلة عن البلد ليتجرّدوا لعبادة خالقهم سبحانهُ وتعالى. فالله تبارك وتعالى مدح في هذه الآية الذين كانوا من أمّة عيسى المسلمين المؤمنين المتّبعين لنبيّهم عيسى عليه السلام بالإيمان والتوحيد، وكانوا صادقين لأنهم كانوا أهل رأفة ورحمة ولأنهم ابتدعوا بدعة حسنة وهي (الرهبانيّة)

رفع سيدنا عيسى للسماء

ولما أخذت دعوته عليه السلام تنتشر ويكثر أتباعه ومناصروه، زاد حسد اليهود له فتآمروا عليه وأخذوا يدبرون مكيدة لقتله والتخلص منه، فحماه الله من كيدهم ومكرهم فرفعه إلى السماء من بين أظهرهم وألقى شبهه على أحد أصحابه فقتلوه وصلبوه وهم يعتقدون أنه عيسى عليه السلام،

يقول الله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ  قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا ءامَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)} سورة ءال عمران، وهذا دليل على أن دين عيسى عليه السلام هو الإسلام،

ثم قال تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ  وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ  ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ  وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ  خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59)} سورة ءال عمران،

وقوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ  وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} أي أن المكر من الخلق خبث وخداع باستعمال حيلة بطريقة خفية لإيصال الضرر للغير، وأما من الله فمعناه أن الله يجازي الماكرين بالعقوبة من حيث لا يدرون، وبعبارة أخرى أن الله أقوى في إيصال الضرر إلى الماكرين من كل ماكر جزاء لهم على مكرهم.

وأما قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} فبحسب اللفظ متوفيك مقدم ورافعك مؤخر، أما بحسب المعنى متوفيك مؤخر ورافعك مقدم فالترتيب بحسب المعنى، أي إني رافعك إلي أي إلى محل كرامتي

{وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي مخلصك من اليهود، ومتوفيك أي بعد إنزالك إلى الأرض، وهذا هو القول الصحيح الموافق للأحاديث وهو قول ترجمان القرءان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وغيره، أي أنها من باب المقدم والمؤخر وهو معروف في اللغة العربية كما في قوله تعالى: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَىٰ (5)} سورة الأعلى، فالغثاء هو اليابس المتكسر، والأحوى هو الأخضر والنبات أولًا يكون أحوى أي أخضر ثم يصير غثاء أي يابسًا متكسرًا.

ويقول تعالى في الرد على الذين زعموا أن المسيح قُتل: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ  وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ  مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ  وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ  وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)} سورة النساء.

ومعنى قوله تعالى: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} أي إلى محل كرامته. أي المكان الذي هو مشرف عنده وهي السماء، لأنها مهبط الرحمات والخيرات والبركات، وليس المراد أن الله يسكن السماء والعياذ بالله، فربنا هو خالق السماء وهو خالق كل شئ، لا يحتاج إلى سماء تقله ولا إلى مكان يحويه ولا إلى زمان يجري عليه، كان قبل السماء بلا سماء وهو الآن على ما عليه كان، موجود بلا جهة ولا مكان { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} سورة الشورى.

وقد ورد في قصة رفعه عليه السلام إلى السماء، ما أخرجه ابن أبي حاتم والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان عيسى عليه السلام مع اثني عشر من أصحابه في بيت فقال: إن منكم من يكفر بي بعد أن ءامن، ثم قال: أيكم يلقى عليه شبهي ويقتل مكاني فيكون رفيقي في الجنة ؟

فقام أحدثم سنًا أي أصغرهم فقال: أنا، فقال له: اجلس،

ثم عاد فقال: أيكم يلقى عليه شبهي ويقتل مكاني فيكون رفيقي في الجنة ؟ فقام نفس الشاب وقال: أنا، فقال له: اجلس،

ثم أعاد ما قال مرة ثالثة فقال الشاب: أنا، فقال له سيدنا عيسى: أنت هو،

وألقى الله سبحانه شبه عيسى على ذلك الشاب ورفع عيسى من روزنة البيت إلى السماء الثانية، والروزنة هي النافذة في أعلى الحائط، ثم جاء الطلب من اليهود ودخلوا البيت فأخذوا ذلك الشاب وقتلوه وصلبوه.

وأما ما يرويه بعضهم من أن يهوديًا جاء ليدلهم على مكان عيسى وكانوا قد وعدوه بمبلغ من المال ثم ألقي عليه شبه عيسى لما أدخلهم البيت فظنوه المسيح فقتلوه فغير ثابت مع أنه بلغ شهرة بين الناس، والصحيح هو ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما.

وبعد ذلك افترق الناس ثلاث فرق كما أخبر المسيح عليه السلام بقوله: إن منكم من يكفر بي بعد أن ءامن ففرقة قالت هو الله، وفرقة قالت هو ابن الله، وفرقة قالت هو عبد الله ورسله وهي الفرقة المؤمنة المسلمة، فتظاهرت الفرقتان على الفرقة المسلمة فقتلوها فلم يزل الإسلام طامسًا حتى بعث الله محمدًا.

تحريف الإنجيل

وبعد رفع عيسى المسيح عليه السلام إلى السماء بمائتي سنة حُرّف دينه القويم وحُرّفت معاني الإنجيل الذي أنزِل عليه، ثم عمد هؤلاء المحرّفون إلى تحريف ألفاظه فحذفوا منه أغلب الألفاظ، وصار أحدهم يكتب إنجيلًا ويقول: هذا هو الإنجيل الأصلي،

حتى كثر عددها وبلغ إلى نحو سبعين كتابًا كلها باسم الإنجيل، فجمعهم الملك (قسطنطين) الذي كان في الأصل وثنيًا ثم دخل في دين المحرّفين وطلب منهم أن يجمعوا أمرهم، فاتفقوا على أربعة كتب، كلها فيها تحريفٌ للإنجيل الأصليّ الذي أنزل على نبيّ الله عيسى عليه السلام،

ثم أحرقوا بقيّة الكتب وانقسموا نحو سبعين فرقة، قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَىءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(68)} سورة المائدة.

ثمّ بعد ذلك صار المسلمون من أتباع عيسى يفرّون بدينهم إلى الجبال يعبدون الله تعالى وحده، ومع مرور الأيام قلّوا حتى لم يبق منهم أحد بعد ذلك لا في الجبال ولا في المدن، وهذا قبل بعثة سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم.

وقد مدح الله تعالى في القرءان الأوّلين من ترهّبوا مع التوحيد والإيمان على شريعة عيسى وذمّ الآخرين الذين قلّدوهم على غير ما كانوا عليه في الحقيقة فقال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ ءامَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ(27)} سورة الحديد.

جريج رضي الله عنه

وكان في أمّة عيسى الصالحون الصادقون الذين استقاموا بطاعة الله وحده ومنهم جريج رضي الله عنه، فقد كان جريجُ من المسلمين الذين هم على شريعة نبي الله عيسى المسيح عليه السلام وكان تقيًا صالحًا يعيش بعيـدًا عن الناس، وكان قد بنى صومعة يعبد الله تعالى فيها،

وجاء في قصتـه عليه السلام أن امرأة زانية فاسقة قالت: أنا أفتن جريجًا هذا، فتزينت وتعرضت له فلمّا رءاها لم يهتمّ بها فقطعت الأمل في فتنته، ثم صادفت رجلًا راعيًا فتعرضت له فزنى بها فحمَلت منه ثم لما وضعت حملَها قالت: هذا الولد من جريج،

وذهبوا إلى جريج وهدموا له صومعته التي كان يعبد الله تعالى فيها، وربطوه بحبل وجرُّوه وطافوا به بين الناس إهانة له، فقال لهم: أمهلوني حتى أصلي ركعتين فأمهلوه فصلى ركعتين ثم قال للمولود الذي ولدته هذه المرأة: يا غلام من أبوك؟ قال المولود: الراعي، أنطق الله تعالى الغلام ليبرئ عبدَه الوليَ الصالحَ جريجًا،

فعادوا يتمسحون به ويقبلونه ليرضى حيث رأوْا له هذه الكرامة العظيمة وهي أنه أنطق هذا الطفلَ المولودَ بإذن الله لتبرئته مما اتُهم به، فقالوا له: نبني لك صومعتَك من ذهب، فقال لهم جريج: لا، أعيدوها كما كانت، أي من طين، روى هذه القصة البخاري ومسلم في صحيحيهما.

سيرته عليه السلام وزهده وورعه وشئ من أوصافه ولماذا سمي بالمسيح:

كان نبي الله عيسى عليه السلام جميل الشكل والصوت أي ليس طويلًا ولا قصيرًا، ءادم اللون أي ذا سمرة خفيفة، سبط الشعر أي شعره متسلسل ناعم،

وكان من سيرته عليه السلام أنه كان زاهدًا لا يبالي بنعيم الدنيا وملذاتها الفانية بل كان قلبه متعلقًا بالعمل للآخرة وبطاعة الله تعالى. وكان عيسى عليه السلام يلبس الشعر ويأكل من ورق الشجر من نحو الملوخية والهندباء من غير طبخ، وكان لا يدخر عنده شيئًا ولكن ينفقه على الفقراء والمساكين والمحتاجين، لا يأوي إلى منزل ولا أهل ولا مال، فهو عليه الصلاة والسلام لم يكن يتخذ منزلًا يأوي إليه وإنما يبيت وينام أينما يدركه المساء.

وكان عليه السلام ورعًا كثير البكاء من خشية الله متوكلًا على مولاه كثير ثقة القلب بخالقه ورازقه، فكان عليه السلام يتحرى الطعام الحلال، وقد قال بعضهم: إنه كان يأكل من غزل أمه مريم عليها السلام،

وقد روي عنه أنه خرج يومًا على أصحابه وعليه جبة صوف فقال لأصحابه: السلام عليكم يا بني إسرائيل، أنا الذي انزلت الدنيا منزلتها بإذن الله ولا عجب ولافخر، ثم قال لهم: أتدرون أين بيتي؟ قالوا: أين بيتك؟

فقال: بيتي المساجد وطي الماء، وإدامي الجوع، وسراجي القمر بالليل، وصلاتي في الشتاء مشارق الشمس، وريحاني بقول الأرض، ولباسي الصوف، وشعاري خوف رب العزة، وجُلسائي الزمنى والمساكين، أُصبح وليس لي شئ، وأُمسي وليس لي شئ، وأنا طيب النفس غير مكترث فمن أغنى عني مني وأربح؟.

وسمي نبي الله عيسى عليه السلام بالمسيح لكثرة سياحته في الأرض ليعلم الناس دين الله وشرعه ويدعوهم الى عبادة الله وحده، وقيل: إنه سمي بالمسيح لأنه كان يمسح على المريض الأبرص والأعمى وغيرهما فيشفى بإذن الله تعالى ومشيئته.

من أقوال عيسى عليه السلام

ومن أقواله صلى الله عليه وسلم: كلوا خبز الشعير واشربوا الماء القراح واخرجوا من الدنيا سالمين ءامنين، بحق ما أقول لكم إن حلاوة الدنيا مرارة الآخرة، وإن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة، الدنيا والآخرة كالضرتان إذا أرضيت واحدة أسخطت الأخرى

وقال أيضا: أهينوا الدنيا تكرمكم الآخرة، إنكم لا تدركون ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون، ولا تبلغون ما تريدون إلا بترك ما تشتهون .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحابته الطيبين الطاهرين وعلى جميع إخوانه النبيين والمرسلين وءاخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مواقيت صلوات اليوم

    عمان, الأردن
    الصلاةالوقت
    الفجر2:58 AM
    شروق الشمس4:40 AM
    الظهر11:33 AM
    العصر3:13 PM
    المغرب6:25 PM
    العشاء7:56 PM

إن المعرفة الحقيقية لدخول أوقات الصلاة تقوم على المراقبة، أما ما نذكره هنا فمن باب الاستئناس

إن أوقات الصلاة الظاهرة هي فقط لمدينة عمان، الأردن

قنوات التواصل الاجتماعي