زيد المصري - Zaid Al-Masri

نبي الله داود عليه الصلاة والسلام

الحمد لله رب العالمين، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، والصلاة والسلام على رسول الهدى محمد طه الأمين، وعلى ءاله وصحابته الطيبين الطاهرين ومن تبعهم وسار على منوالهم إلى يوم الفصل والدين.

أما بعد:

فقد قال الله تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ(17)} سورة ص، وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَءاتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا(55)} سورة الإسراء،

فداود عليه الصلاة والسلام هو من الأنبياء والرسل الكرام، وقد ءاتاه الله تعالى النبوة والمُلك وجعله رسولًا إلى بني إسرائيل، وقد ورد اسمُ داود عليه الصلاة والسلام في القرءان الكريم في ستة عشر موضعًا. وينتهي نسبه عليه السلام إلى يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. وقد جمع الله تبارك وتعالى له بين النبوة والمُلك وأنزل عليه الزبور.

بعد وفاة هارون وموسى عليهما السلام تولى أمر بني إسرائيل نبيٌّ من أنبيائهم يُدعى يوشع بن نون عليه السلام، فدخل بهم بلاد فلسطين التي كانوا قد وُعدوا بها على لسان موسى عليه السلام في التوراة،

ولما توفي تولى أمرهم قضاة منهم وبقوا على ذلك مدة طويلة من الزمن، وفي هذه الفترة دَبَّ إلى بني إسرائيل الوَهَن والضعف وفشت فيهم المعاصي والمنكرات، ودخلت الوثنية وعبادة الأوثان والأصنام في صفوفهم فسلّط الله تعالى عليهم الأمم القريبة منهم،

فغزاهم العمالقة والآراميون وغيرهم، وكانوا إلى الخذلان أقرب منهم إلى النصر في كثير من حروبهم مع أعدائهم، وكان بنو إسرائيل قد قتلوا كثيرًا من الأنبياء فسلّط الله عليهم ملوكًا جبارين يسفكون دماءهم وسلّط عليهم الأعداء من غيرهم،

وكانوا إذا قاتلوا أحدًا من الأعداء يكون معهم (تابوت الميثاق) وفيه ألواح موسى وعصاه وهو ما أشارت إليه الآية الكريمة: {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ ءالُ مُوسَى وَءالُ هَارُونَ(248)} سورة البقرة.

وقد كان بنو إسرائيل سابقًا يُنصرون ببركته، ولوجود التوراة بينهم منذ قديم الزمان وكان ذلك موروثًا لخَلَفِهم عن سلفهم، فلم يزل بهم تماديهم على الضلال والفساد حتى إذا كانوا في بعض حروبهم مع أهل غزة وعسقلان فغُلبوا وأُخذ التابوت من بين أيديهم وأُخِذت التوراة منهم ولم يبقَ من يحفظها فيهم إلا القليل.

وفي هذه الحروب ماتَ ملكهم الذي كان يقودهم كمدًا وبقي بنو إسرائيل كالغنم بلا راع، حتى هيأ الله تبارك وتعالى لهم غلامًا يقال له (شمويل) نشأ فيهم وتولاه الله بعنايته وأنبته نباتًا حسنًا، ثم جعله الله نبيًا وأوحى إليه وبعثه إلى بني إسرائيل،

وأمره بالدعوة إلى دين الإسلام وتوحيد الله تعالى وترك عبادة الأصنام، فلما دعا قومه بني إسرائيل إلى دين الله طلبوا منه أن يُقيم عليهم مَلكًا يُقاتلون معه أعداءهم لأنّ ملكهم كان قد هلك وباد فيهم،

فكان من أمرهم ما قصّ الله تعالى علينا في القرءان فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا} سورة البقرة، أي وقد أخذت منا البلاد وسُبيت الأولاد،

قال الله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} سورة البقرة، أي ما وفَوا بما وعدوا بل نكلوا عن الجهاد إلا القليل منهم والله عليم بهم.

وأوحى الله تعالى إلى نبيه يقال إنه (شمويل) أن يجعل عليهم (طالوت) مَلِكًا وكان رجلًا من أجنادهم ولم يكن من بيت المُلك فيهم، فملَّكه الله تعالى عليهم لقوته الجسمية والعلمية،

ولكن بني إسرائيل تمردوا على توليه المُلك وقالوا لنبيهم: {قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَال} سورة البقرة، أي مع هذا هو فقير لا مال له يقومُ بالملك،

وقد ذكر بعضهم أنه كان سقّاءً، فأجابهم نبيهم قائلًا: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} سورة البقرة، أي اختاره لكم من بينكم والله أعلم به منكم وهو مع هذا قد وهبه الله وزاده بالعلم والجسم، فهو أشد قوة وصبرًا في الحرب ومعرفة بها، أي هو أتم علمًا وقوة في الجسم وقامة منكم.

وأصبح (طالوت) مَلكًا على بني إسرائيل وأيّده الله تعالى على المُلك بعودة التابوت الذي فيه ألواح موسى وعصاه إليهم وكان قد نُزع منهم وكان هذا علامة على بركة مُلك طالوت عليهم، يقول تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ ءالُ مُوسَى وَءالُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ} سورة البقرة.

واختار مَلِكهم طالوت الجنود الأقوياء الأشداء وخرج بهم لقتال عدوهم، وفي الطريق اشتد بهم الظمأ في رحلة برية طويلة وشاقة وكانوا ثمانين ألفًا، ومروا في طريقهم بنهر قيل بين الأردن وفلسطين،

فأراد مَلِكهم طالوت أن يختبرهم فأمرهم أن لا يشربوا منه إلا من أخذ جرعة من الماء ليبل بها ظمأه، وكان ذلك اختبارًا وامتحانًا من (طالوت) لجنوده في قوة بأسهم وإرادتهم،

قال الله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ  فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلا قَلِيلًا} سورة البقرة.

ولم يبق مع طالوت عليه السلام إلا عدد قُدِّر بثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا على عدد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا معه في غزوة (بدر الكبرى)،

وتابع بهم ملكهم (طالوت) لقتال أعدائهم المشركين، وأما بقية الجنود الثمانين ألفًا فقد رجعوا حيث إن إرادتهم كانت ضعيفة خَوّارة، فلذلك لم يصحبهم طالوت معه لقتال خصومه المشركين والذين كان على رأسهم الملك (جالوت) الذي كان جبارًا طاغيًا يهابه الناس من بني إسرائيل.

ولما جاوز طالوت عليه السلام والمؤمنون الذين بقوا معه النهر امتنع بعضهم عن لقاء عدوهم لكثرتهم ولجبروت ملكهم إلا قليلًا منهم ممن ثَبَّتَ الله تعالى قلوبهم وقوّى عزيمتهم، وكان فيهم العلماء العاملون، لذلك أخذوا يثبتون إخوانهم المؤمنين ويقوون عزائمهم ويذكرونهم بنصر الله وأن النصر من عند الله ينصر من يشاء من عباده،

يقول الله تعالى إخبارًا عن هذين الفريقين الذينَ جاوز بهم طالوت النهر لقتال الكافرين: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(249)} سورة البقرة.

وتقدم طالوت مع من بقي من المؤمنين من بني إسرائيل إلى جالوت ومن معه من المشركين، فطلب جالوت قبل بدء المعركة المبارزة فتقدم إليه فتىً شجاعًا هو داود عليه السلام وكان هو وأبوه (إيشا) في جيش طالوت.

فلما أقبل داود على جالوت احتقره جالوت وازدراه وقال له: (ارجع فإني أكره قتلك) فما كان من داود إلا أن قال له بكل شجاعة وجُرأة: ” ولكني أحبُّ قتلك “ ثم حصلت مبارزة بين جالوت الطاغية وبين داود عليه السلام، فَقَتَلَ داودُ جالوتَ شرّ قتلة ثم التَحَم القتال، وانهزم جيش جالوت من المشركين شر هزيمة،

يقول الله تبارك وتعالى إخبارًا عن ذلك: {وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَءاتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء(251)} سورة البقرة.

وكان طالوت عليه السلام قد وعد داود إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته ويشاطره نعمته ويُشركه في أمره، فوفى له وعده، ثم ءال الملك إلى داود عليه السلام مع ما منحه الله تعالى من النبوة العظيمة والعلم الوافر،

ومنذ ذلك الحين لمع اسم داود بين شعب بني إسرائيل وتتابعت الانتصارات على يديه، وأعز الله تعالى بني إسرائيل بعد أن كانوا في ذل وهوان، وكان بنو إسرائيل قد اجتمعوا بعد وفاة ملكهم طالوت على مبايعة داود عليه السلام على المُلك فأصبح ملكهم وكان عمره لا يزيد على ثلاثين سنة وقد حكم شعبه بالعدل، وطبّق عليهم أحكام شريعة التوراة.

ولما بلغ داود عليه الصلاة والسلام من العمر أربعين سنة ءاتاه الله تعالى النبوة مع الملك وجعله رسولًا إلى بني إسرائيل، فدعا داود عليه الصلاة والسلام قومه بني إسرائيل إلى تطبيق الشريعة التي أنزلت عليه وهي شريعة التوراة المبنية على الإسلام،

والإيمان بأن الله هو رب العالمين وأنه الخالق الذي كون الأكوان وأنه لا أحد يستحق العبادة إلا الله تعالى وحده، وأنزل الله تبارك وتعالى على نبيه داود عليه الصلاة والسلام الزبور وفيه مواعظ وعِبر ورقائق وأذكار، وءاتاه الحكمة وفصل الخطاب، يقول الله تبارك وتعالى: {ولقد فضَّلنا بعضَ النَّبيِّنَ على بعضٍ وءاتينا داودَ زبورًا(55)} سورة الإسراء.

أعطى الله تبارك وتعالى عبده داود عليه الصلاة والسلام فضلًا كبيرًا وحَباه من لدنه خيرًا عظيمًا، فقد كان داود عليه الصلاة والسلام حسن الصوت وكان عندما يصدح بصوته الجميل فيسبّح الله تعالى ويحمُده تسبح معه الجبال والطير

يقول الله تعالى: {ولقد ءاتيْنا داودَ مِنَّا فضلًا يا جبالُ أَوِّبي معهُ والطَّيرُ وأَلَنَّا لهُ الحديدَ(10)} سورة سبأ، ويقول تعالى: {وسَخَّرنا معَ داودَ الجِبالَ يُسَبِّحنَ والطيرَ وكُنَّا فاعلين(79)} سورة الأنبياء.

 وكان داود عليه الصلاة والسلام إذا قرأ الزبور وما فيه من رقائق وأّذكار تكف الطيرُ عن الطيران وتقف على الأغصان والأشجار لتسمع صوته النديّ العذب وتسبح بتسبيحه، وكذلك الجبال تُردد معه في العشي والإبكار، تجيبُه وتسبح الله معه كلما سبح بكرة وعشيًا، وتعكف الجن والإنس والطير والدواب على صوته،

يقول الله عز وجل: { إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً  كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ (19) } سورة ص، وكان مع ذلك الصوت الرخيم سريع القراءة مع التدبر والتخشع فكان صلوات الله وسلامه عليه يأمر أن تسرج دابته فيقرأ الزبور كلَّه قبل أن تسرج،

روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام الْقُرْءانُ فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَوَابِّهِ فَتُسْرَجُ فَيَقْرَأُ الْقُرْءانَ قَبْلَ أَنْ تُسْرَجَ دَوَابُّهُ وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ” والمراد بالقرءان في هذا الحديث الزبور الذي أنزله الله تعالى عليه وأوحاه إليه.

ولقد ورد أن سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم وقف يومًا يستمع إلى صوت الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري وكان يقرأ القرءان بصوته العذب الحنون، فقال عليه الصلاة والسلام: “يَا أَبَا مُوسَى، لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ ءالِ دَاوُدَ” فقال يا رسول الله أكنت تستمع لقراءتي ؟ قال: ” نعم “ فقال: أَمَا إِنِّي لَوْ عَلِمْتُ بِمَكَانِكَ لَحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيرًا ” أي لجملته تجميلًا. ومعنى مزمار داود: صوته الجميل الذي كان يقرأ به التوراة، وليس المزمار المعروف المحرّم.

وكان نبي الله داود عليه الصلاة والسلام مع هذه العظمة والمُلك والجاه الذي تفضل الله به عليه كثير العبادة لله سبحانه وتعالى ليلًا ونهارًا، فقد كان صلوات الله وسلامه عليه يقوم الليل ويصوم في النهار،

يقول الله تبارك وتعالى: {واذكُر عبدَنا داودَ ذا الأيدِ إنَّهُ أوَّابٌ} سورة ص، ومعنى “ذا الأيد” أي ذا القوة في العبادة والعمل الصالح، فكان داود عليه السلام ذا قوة عالية في عبادة الله وطاعته عمل الصالحات إنه أوّاب مطيع لله.

وقد ثبت في الصحيحين أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَأَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ “ وقال عنه أيضًا: “ولا يفر إذا لاقى” رواه مسلم.

ومما أنعم الله تبارك وتعالى على داود عليه الصلاة والسلام أن علَّمه منطق الطير وأَلانَ له الحديد فكان بين يديه بإذن الله كالعجين، حتى كان يفتله بيده ولا يحتاج إلى نار ولا مطرقة فكان يصنع منها الدروع ليحصّن بها جنوده من الأعداء ولدرء خطر الحروب والمعارك.

قال الله تبارك وتعالى: {وألَنَّا لهُ الحديدَ} سورة سبإ، ويقول الله تعالى: { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ  فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ (80)} سورة الأنبياء،

ومن فضل الله تبارك وتعالى على عبده داود أن قوّى مُلكه وجعله منصورًا على أعدائه مُهابًا في قومه، قال الله تعالى: {وشَدَدْنا مُلكهُ وءاتيناهُ الحِكمةَ وفَصْلَ الخِطابِ} سورة ص، وقيل: معنى الحكمة: أي النبوة، وأما فصل الخطاب فقد قيل: هو إصابة القضاء، وقيل: هو قوله في الخطاب: (أما بعد).

قصة الخصمين مع داود عليه السلام ورد الفرية العظيمة على داود في هذه القصة:

قال الله تعالى: { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ   قَالُوا لَا تَخَفْ  خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)

إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ  وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ   وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ۩ (24) } سورة ص.

وليعلم أن بعض المحرفين أورد في تفسير هذه الآيات في قصة الخصمين مع نبي الله داود عليه السلام قصصًا مكذوبة لا تليق بنبي الله داود الذي خصه الله تعالى بالنبوة وأكرمه بالرسالة، لأنّ الأنبياء جميعهم تجب لهم العصمة من الكفر والرذائل وكبائر الذنوب وصغائر الخسة،

لذلك لا يجوز الاعتماد على مثل هذه القصص المنسوبة للأنبياء ولا يجوز اعتقادها لأنها تنافي العصمة الواجبة لهم، لذلك ينبغي فهم قصة الخصمين مع داود عليه السلام على ظاهر ما أوردها الله تعالى في القرءان.

والتفسير الصحيح أن ذينك الخصمين كانا من البشر بلا شك وكانا مشتركين في نعاج من الغنم على الحقيقة، فبغى أحدهما على الآخر وظلمه على ما نصّت الآية، وقد تسور هذان الخصمان محراب داود عليه السلام وهو أشرف مكان في داره،

وكان داود عليه السلام مستغرقًا في عبادة ربه في ذلك المحراب فلم يشعر داود عليه الصلاة والسلام بالشخصين إلا وَهُما أمامه فلما قال لهما: “من أدخلكما عليّ؟”  طمأناه وقالا له: لا تخف، ثم سألاه أن يحكم في شأنهما وقضيتهما إلى ءاخر القصة التي نص الله تعالى عليها في القرءان.

وقد امتَحن الله تعالى نبيه داود عليه السلام في هذه الحادثة التي جرت معه مع هذين الخصمين، وأما استغفاره عليه الصلاة والسلام فلأجل الذنب الصغير الذي وقع فيه وهو أنه تعجل بالحكم على الخصم الآخر قبل التثبيت في الدعوى،

وكان يجب عليه لما سَمِعَ الدعوى من أحد الخصمين أن يسأل الآخر عما عنده فيها ولا يقضي عليه بالحُكم قبل سؤاله، وقد تاب داود عليه السلام من ذلك الذنب الصغير الذي ليس فيه خسة ولا دناءة، وغفر الله تعالى له هذا الذنب بنص القرءان الكريم، قال الله تعالى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} سورة ص.

أما القصة المكذوبة والمفتراة على نبي الله داود عليه السلام زورًا وبهتانًا والتي هي من الإسرائيليات المدسوسة على الأنبياء، أن داود عليه الصلاة والسلام كان يومًا في محرابه إذ وقعت عليه حمامة من ذهب،

فأراد أن يأخذها فطارت فذهب ليأخذها فرأى امرأة تغتسل فوقع في حبها وعشقها وأعجب بها وأغرم، وكانت زوجة أحد قواده ويُسمى (أوريا) فأراد أن يتخلص منه ليتزوج بها فأرسله في أحد الحروب وحمّله الراية وأمره بالتقدم

وكان قد أوعز إلى جنوده أن يتأخروا عنه إذا تقدم نحو الاعداء حتى قُتل ذلك القائد وبهذه الوسيلة  كما يقولون في هذه القصة المفتراة قتل القائد (أوريا) وتزوج داود عليه السلام زوجته من بعده،

ويزيد بعضهم فيقول: إن داود زنى بهذه المرأة قبل تدبير هذه المكيدة: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} سورة الكهف.

وقد قال العلماء المعتَبَرُون: إن هذه الروايات لا تصح لا من طريق النقل ولا تجوز من حيث المعنى، لأن الأنبياء منزهون عن مثل هذه الامور كلها، وقالوا: لا يُلتفت إلى ما سطّره بعض المفسرين والقصصيين عن أهل الكتاب الذين بدّلوا وغيّروا ولم يكن اعتقادهم بداود عليه الصلاة والسلام أنه رسول الله بل مَلِك من الملوك،

وهذا الذي حكاه بعض المحرفين عن سيدنا داود وهو أنه عشق امرأة أوريا فاحتال حتى قتل زوجها فتزوجها لا يليق بالأنبياء بل لو وصف به أفسق الملوك لكان مُنكرًا،

وقد وصف الله تبارك وتعالى سيدنا داود في هذه الآية بمحامد كثيرة منها قوله تعالى: {ذا الأيدِ} أي القوة، ولا شك أن المراد منه القوة في الدين والعبادة لأن القوة في غير الدين كانت موجودة في الملوك الكفار وما استحقوا بها مدحًا،

والقوة في الدين لا معنى لها إلا في القوة والعزم الشديد على أداء الواجبات واجتناب المحرمات،

وما روى بعض المحرفين في تفسيرهم أن الخصمين اللذين اختصما إلى داود عليه السلام كَنَّيا بالنعاج عن المرأة تنبيهًا إلى قصته على زعمهم مع (أوريا) فغير صحيح، والصحيح أنهما خصمان في نتاج غنم على ظاهر الآية في القرءان.

وقد تكنى العرب عن النساء بالنعاج، لكن لا يجوز تفسير النعاج في قصة داود عليه السلام مع الخصمين المذكورة في القرءان بالنساء كما فعل هؤلاء المفسرون فقد أساءُوا بتفسيرهم هذا لأن ما ذكروه لا يليق بنبي الله داود عليه الصلاة والسلام، يقول العالم الجليل الحافظ تقي الدين السبكي: النعجة في الآية هي النعجة الحقيقية، والخصمان من البشر. فافهم ذلك أخي المسلم رحمك الله بتوفيقه.

فائدة:

في تفسير قول الله تبارك وتعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ  إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ(26)} سورة ص.

هذا خطابٌ من الله تبارك وتعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام، وفيه وصية من الله عز وجل لولاة الأمور وحكام الناس أن يحكموا بين الناس بالحق والعدل واتباع الحق المنزل من عنده تبارك وتعالى لا ما سواه من الآراء والاهواء،

وتوعّد الله سبحانه وتعالى في هذه الآية من سلك غير ذلك وحَكَمَ بغير ذلك وضل عن سبيل الله بأنَّ لهم العذاب الشديد يوم القيامة، وقد كان نبي الله داود عليه الصلاة والسلام هو المقتدى به في ذلك الزمان في العدل وكثرة العبادة وأنواع القربات، قال الله تعالى: {اعْمَلُوا ءالَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ(13)} سورة سبأ.

وكان لنبي الله داود عليه الصلاة والسلام حِكمٌ عظيمة فيها المعاني العظيمة ومنها:

ما ذكره عبد الله بن المبارك رحمه الله في كتاب (الزهد) بالإسناد عن وهب بن منبه قال: ” إنّ من حكمة ءال داود: حَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَرْبَعُ سَاعَاتٍ: سَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يَقْضِي فِيهَا إلَى إخْوَانِهِ الَّذِينَ يُخْبِرُونَهُ بِعُيُوبِهِ وَيُصَدِّقُونَ عَنْ نَفْسِهِ، وَسَاعَةٌ يُخَلِّي فِيهَا بَيْنَ نَفْسِهِ وَلَذَّاتِهَا فِيمَا يَحِلُّ وَيَجْمُلُ، فَإِنَّ هَذِهِ السَّاعَةَ عَوْنٌ لَهُ “

وقَالَ: ” حق عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِزَمَانِهِ مَالِكًا لِلِسَانِهِ ، مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ” .

وقد كان نبي الله داود صلى الله عليه وسلم مع ما ءاتاه الله تبارك وتعالى من المُلك والنعم الكثيرة يأكل من كسب يده، ويقوم الليل والنهار في طاعة الله سبحانه وتعالى،

وقد ثبت في الحديث الذي رواه النسائي وغيره عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ “ وقال عليه الصلاة والسلام: ” وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ “ رواه البخاري.

وروى أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:   كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ غَيْرَةٌ شَدِيدَةٌ، فَكَانَ إِذَا خَرَجَ أُغْلِقَتِ الْأَبْوَابُ، فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَى أَهْلِهِ أَحَدٌ حَتَّى يَرْجِعَ، فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ وَأُغْلِقَتِ الْأَبْوَابُ، فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ تَطَّلِعُ إِلَى الدَّارِ،

فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ وَسَطَ الدَّارِ، فَقَالَتْ لِمَنْ فِي الْبَيْتِ: مِنْ أَيْنَ دَخَلَ هَذَا الرَّجُلُ وَالدَّارُ مُغْلَقَةٌ ؟ وَاللَّهِ لَنَفْتَضِحَنَّ بِدَاوُدَ، فَجَاءَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِذَا الرَّجُلُ قَائِمٌ وَسَطَ الدَّارِ ! فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ: مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: أنا الَّذِي لَا يَهَابُ الْمُلُوكَ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنَ الْحُجَّابِ.

فَقَالَ دَاوُدُ: أَنْتَ وَاللَّهِ إذًا مَلَكُ الْمَوْتِ، مَرْحَبًا بِأَمْرِ اللَّهِ، فَتَزَمَّلَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَكَانَهُ حَتَّى قُبِضَتْ نَفْسُهُ، حَتَّى فُرِغَ مِنْ شَأْنِهِ وَطَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلطَّيْرِ: أَظِلِّي عَلَى دَاوُدَ، فَأَظَلَّتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ حَتَّى أَظْلَمَتْ عَلَيْهِمَا الْأَرْضَ. فَقَالَ لَهَا سُلَيْمَانُ: اقْبِضِي جَنَاحًا جَنَاحًا “

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ فَعَلَتِ الطَّيْرُ ؟ فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ… وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ يَوْمئِذٍ الْمَضْرَحِيَّةُ وهي طيور الصقور الطوال الأجنحة. رواه الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد.

وقيل إن عمر داود عليه السلام لما مات كان مائة سنة والله تعالى أعلم وأحكم .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحابته الطيبين الطاهرين وسلام على المرسلين والحمد لله رب االعالمين. 

مواقيت صلوات اليوم

    عمان, الأردن
    الصلاةالوقت
    الفجر2:59 AM
    شروق الشمس4:41 AM
    الظهر11:33 AM
    العصر3:13 PM
    المغرب6:25 PM
    العشاء7:55 PM

إن المعرفة الحقيقية لدخول أوقات الصلاة تقوم على المراقبة، أما ما نذكره هنا فمن باب الاستئناس

إن أوقات الصلاة الظاهرة هي فقط لمدينة عمان، الأردن

قنوات التواصل الاجتماعي